الغزّاويّ الذي يخصّني

بثينة العيسى

آخر مرّة تحدّثتُ مع راني، قبل السابع من أكتوبر، دارَ الحديث عن غوغِل.

أخبرته أنّ النتائج جيّدة في محرّكات البحث، لكنّها لم تحقّق أيّ زيادة في المبيعات.

كنتُ ضجرة.

بعد السّابع من أكتوبر، أصبحَ الكلام على هذه الشاكلة: طمّنّي؟ الحمدُ لله. طمّنّي. الحمد لله على كلّ حال. طمّنّي. الوضع كارثي، الحمدُ لله‎. طمنّي؟ الوضع كارثي جدًا. طمّنّي؟ طمنّي؟ طمنّي؟ الحمدُ لله. طمنّي؟

راني خبير تسويق إلكترونيّ في غزّة‎.

أنا بائعة كتب في الكويت‎.

بعد أوّل اجتماع قرّرتُ توقيع العقد، لم ألتقِ آخرين، لم يكن ثمّة داعٍ. نحنُ في الكويت نعرفُ الجدارة الفلسطينيّة جيّدًا. كان قرارًا لا يخلو من عاطفة مهما ادّعيت التجرّد؛ راني من غزّة. نقطة‎.

لم ألتقِ راني بطبيعة الحال، مجرّد مكالمات فيديو عن تفاصيل تقنيّة، أحاول فيها مداراة جهلي بالتفويض الإداريّ ومزيد من التفويض الإداريّ. ماذا تقترح؟ وما العمل؟ جيّد، لنفعل ذلك. مع ‏السلامة.

في إحدى المرّات، في منتصف مكالمة فيديو، قاطعتُ حديثنا لأريه رفّ فلسطين في المكتبة. كنتُ فخورة ومتباهية، مثل طفلة في السادسة تريدُ من المعلم نجمة لامعة على يدها. أن تسمعه يقول بأنّها "شاطرة"، وأنّ عليها أن تستمرّ، وأنّ "هذه هي المقاومة"، وأنّ العمل الثقافيّ "مهمّ".

في الوقت نفسه، أردتُ أن يمنحني، بوصفه الغزّاويّ المتورّط في قدره كغزّاويّ، صكّ غفران على نجاتي من قدرهِ هو‎.

أن يسامحني على ما لا أدري‎.

كان قسم الكتب الفلسطينيّة قد أدخل حديثًا إلى المكتبة، بعد أحداث "حيّ الشيخ جرّاح"، مُعلَّمًا بيافطة صغيرة حفرنا عليها "فلسطين" بخطّ مختلف عن الخطّ المستخدم في تبويب باقي الأقسام.

كان قسمًا خاصًّا، يحظى بمعاملة خاصَّة، ولا يتسق مع المنطق المستخدَم في التصنيف؛ فلسفة وفكر، تاريخ وجغرافيا، روايات، شعر، علم نفس ... إلخ. ليس عندنا، على سبيل المثال، قسمٌ اسمه الكويت، لم نضطرّ لذلك قطّ، لأنّ الكتب توزّعت عفويًّا بحسب الحقل المعرفيّ. كان من السهل تذويب المكان في الأقسام، إلّا أنّ الأمر لم يكن ممكنًا مع فلسطين، فعمدنا إلى مراكمة كلّ شيء فوق بعضه في ثلاثة أعمدة للكتب؛ دراسات وروايات ودواوين، فلكلور وسير وتراجم. لم أفكر بالأمر وقتها، إلّا أنّني على ما يبدو، كنت بصدد بناء سرديّة، أو توطين سرديّة، تتراوح بين التقريريّ والشعريّ، المخاتل والمباشر، المنطق والعاطفة‎.

عندما ابتسم راني ابتسامة مجامِلة، وأنا أقرأ له عناوين كتب بابيه وفنكلستين ورشيد الخالدي، شعرتُ أنّه عجوز، وأنّني طفلة‎.

أنّه يعرف، وأنّني أجهل‎.

أنّه ابن الحياة، وأنني ابنة الكتب.

أنّ مراكمة الكتب فوق بعضها لن تحدث فرقًا واحدًا في حياته.

خجلتُ من نفسي‎.

هل كنت أتوقّع من شخص محاصَر في سجن مفتوح منذ 2006 أن يبتهج لرؤية رفّ من الكتب؟

لم نتحدّث عن فلسطين بعدها، كلّ ما كنّا نتحدث عنه هو غوغِل والمبيعات، حتّى جاء السابع من أكتوبر.

تحوّل راني بعدها إلى شخص يخصّني، وليس شخصًا أعرفه.

ولأنّني لا أستطيع معرفة 2.2 مليون غزّاويّ تحت مشروع الإبادة، أصبح راني هو وجه غزّة.

ولأنّني أعرف غزّاويًّا واحدًا على الأقلّ، كنت قادرة على التصدّي للمرويّات الاختزاليّة والإحصائيّات الباردة والمانشيتات الخائنة، بعيدًا بعيدًا عن فوكس نيوز، وبعيدًا بعيدًا عن الجزيرة.

لم يكن الأمر تضامنًا، فالتضامن هو ترفُ الآخر؛ اليابانيّ الذي يتظاهر في تقاطع شيبويا، والإيرلنديّ في شوارع دبلن، والأمريكيّ اليهوديّ الذي يطالب بوقف إطلاق النار عند تمثال الحرّيّة. التضامن لهؤلاء. لكنّه لم يكن لي، لأنّني أعرف أنّ الصدفة الجغرافيّة هي التي منحتني السقف والرغيف والوقود، وسماء خالية من الزنّانات والفسفور الأبيض، ومستقبلًا يبدو، نظريًّا على الأقلّ، شبه محصّن من تحويل أسرتي إلى حقل تجارب للسلاح الإسرائيليّ الأمريكيّ، وأنّ أمريكا أخذت الأمرين على عاتقها؛ تحرير الكويت في 1991، ودعم ‏استيطان فلسطين منذ 1948.

كان الفرق بيننا مجرد صدفة.

عبر خيط حواريّ هزيل ممتدّ منذ الثامن من أكتوبر، وحتّى هذه اللحظة، في اليوم الـ 150 من العدوان، والعدّ جارٍ، رأيت راني ينزح من مدينة غزّة، ويلوذ بالمستشفى الأهليّ المعمدانيّ، ثمّ بإحدى مدارس الأونروا، وعودة إلى المستشفى الأهليّ وحتّى ليلة استهدافه، عندما "مشى فوق الأشلاء" وهو غير مصدّق، شاهدتُ بعينيه الجثث التي انتفخت على جانبيّ طريق النزوح إلى رفح، وشعرت بحرج بالغ، وأنا أطلب منه أن يرسل لي صور أطفاله، كما لو كنّا صديقين يتسامران في مقهى، ولم أخبره طبعًا أنّني أريد، في غمرة تحديقي بكلّ فيديو قادم من غزّة، أن أتعرّف عليه وعلى الأطفال إذا ما جرى لهم خطب.

سألته مرّة سؤالًا في غاية السخف، بأنّني إذا تمكّنت من المجيء إلى معبر رفح من مطار العريش مع الجسر الجوّيّ الذي أقامته حملات الإغاثة الكويتيّة، هل سأتمكّن من رؤيته ولو من بعيد؟ كنت أتخيّلني واقفة فوق شاحنة، ألوّح له من وراء الجدار. أرسلتُ له صور المتظاهرين في شوارع العالم كي يصدّق أنّه غير وحيد، وأظنّه ابتسم مجاملًا كما فعل قبل سنة، عندما قرأت له عناوين كتب فلسطين، وأنّه كان يعرف بأنّ فرقًا واحدًا لن يحدث في حياته‎.‎

لم يكن راني من تلك الطينة التي تخرج من الأنقاض رافعة علامة النصر. كان يشبهني في عاديّته، مجرّد خبير تسويق، دؤوب وبارع‎. شخص يحاول أن ينجو. لم يُمنح قطّ فرصة عيش حياة عاديّة، مثل كلّ فلسطينيّي الكوكب، وأنا تورّطت بهذه الفكرة، منذ أن لفّت أمّي عنقي بالكوفيّة في العام 1987 وأنا بنت خمس ‏سنوات؛ فكرة الحياة غير العادلة، وكيف أنّنا نصبح من نحن عليه بسبب ما لا سيطرة لنا عليه. وكيف أنّني نجوتُ مرارًا من أن أكون شخصًا آخر. ومع كل رواية قرأتُها كنت أقف عند ذات الفكرة؛ بأنّني لم أكن راسكولنيكوف دوستوفيسكي، ولا سنتياغو نصار ماركيز، ولا صفيّة غسّان كنفاني.

وبالمثل لم أكن راني من غزّة، لم أضطرّ لذلك قطّ.

أنّني نجوتُ بأعجوبة، مثل راني الذي يمشي فوق الأشلاء بعد قصف المستشفى الأهليّ المعمدانيّ، وهو غير مصدّق.

في الأيّام الأخيرة، كانت الاتصالات تصبّ في ترتيب خروجه إلى مصر. المبلغ المرصود والآليّة وكلّ تلك التفاصيل التي جعلت الدم يغلي في عروقي.

راني هو الغزّاويّ الوحيد الذي يخصُّني، وإذا سار كلّ شيء على ما يرام، سيكون وعائلته في مصر، وستكون غزّة في خيالي كما هي في صورها تمامًا، وكما وصفها راني نفسه، "مكانًا نجح الاحتلال في جعله غير قابل للحياة".

ثمّ سأتذكّر، "غصبًا عليّ" سأتذكّر، سأجبر نفسي، سأصدّق ...

حتّى وأنا أجهش، حتّى وأنا أشتم وألعن، حتّى وأنا أُعطَب، سأتذكّر ...

أنّ غزّة هي  الخارجة من رمادها أبدًا، أنّها "العنقاء التي تكبر أن تُصادا" كما صاغها المعرّي، وسأهمس بالتتمّة لنفسي: "فعاند من تطيق له عنادا"، عانِد! لأنّ هذا هو ما يستطيع المرء فعله في عالم غير عادل، أن يصنع أنفاق النزق والمقاومة و"الزعرنة" ليخلخل ترتيبات البرودِ القاتل، أن يستنبت المخالبَ ويخرّب ...

سأبحث عن العزاءات في استعاراتٍ من هذا النوع، وسأتخيّل راني في مستقبل غير بعيد، يزورني في الكويت، لأريه المكتبة بما تضمّه من كتب عن فلسطين، وعندها لن يبتسم مجاملًا، الأرجح أنه سوف يبكي، وآملُ من كلّ قلبي، أن يحسّ نفسه في وطنه ...

‎ 6 مارس 2024‏





Excerpt from بخطّ أحمر: كتابات عربيّة حول السابع من أكتوبر (Red Line: Arab Writings on October 7). Tibaq Publishing, 2024.