عن الموسيقى والكتابة والعزلة
Hamoud Saud
موسيقا
م
ملح الكلام وسكره ودمه النازل من صوت الأشياء المنسية، وماء الكائن الذاهب بكل حواسه وحدسه الداخلي وخذلانه وظله الشفاف نحو شرفات الفرح، هي الموسيقا يا صديقي، تحملك ، وتدفنك وتجرحك وتغسلك وتفتح نوافذ ذاكرتك المثقلة والخفيفة في الوقت نفسه وطفولتك وحنينك، لا يهم إن كنتَ في طفولتك قد أحببت صوت أوتار العود في أغاني ميحد حمد وبن روغة ورددتها في الوديان والسيوح والجبال والضواحي وتحت ظلال النخيل، أو كنتَ تستمع لمقاطع موسيقية لموزارت أو بتهوفن أو باخ في شرفات شقتكم في إحدى عواصم الأرض أو ريفها. فالموسيقا هي الموسيقا تنحدر من سلالة نقية واحدة، ومن عرق واحد ومن نبع ،واحد من شريان الدهشة، ثم تندحق بأمطارها نحو جسد الأرض وأوردتها، ونحو الجهات، فهي لا تعرف العنصرية ولا العبودية هي ابنة الجمال، وهي أم الجمال والحرية والدهشة هي التي تطير إلى الآفاق بلا جناحين وتخترق حدود الأمكنة واللغات والأيودلوجيات، وتسقط على العتبات والتلال والذكريات من دون أن تنكسر أو تنجرح أو يفسد دمها أو تجف أغصانها.
و
واصلة ومتصلة ومتواصلة وأصيلة، الشعوب بذاكرة الأرض والدم والمكان والحروب والميلاد والدمع والضحكة، وهي وتد الطفل في جدار الأمومة، وهي عكاز الشيخوخة التي تقود أعمارنا إلى ينابيع الصفاء هي كحرف العطف في العربية. هي جذر اللغات وفرعها يا صديقي لا تبحث عن الموسيقا في الردهات ومحلات البيع والشراء، فالموسيقا أطهر من أن تُباع وتشترى، عليك فقط أن تنصت لصوت الريح وهي تعبر على أغصان الشجرة في باحة بيتك، أو تفتح نوافذ روحك لموسيقا الماء في السواقي، أو أن تغمض عينيك وتنصت لصوت يمامة في أطراف القرية ترفع هديلها لتعلن بداية صيف البلاد. أو أن تتخيل راعية وهي تقود الصباح والماشية وصوت الناي إلى السفوح والجبال بصوتها. عليك أن تنصت لصوت خطوات امرأة ذاهبة صباحا لموعد ،قديم، تنتظره منذ سنوات طويلة. خطواتها المسرعة ستقول لك ما الموسيقا؟
الموسيقا دمعة في خد صخرة منسية في جبل، أو علينا أن نتخيلها قطرة ماء يحملها طائر مسرعا لعشه، أو علينا أن نتخيلها صوت انغلاق نافذة قديمة في بيت طيني.
س
سهم جارح في كبد الزمن والحياة والأيدولوجيا التي تُحرّم الفرح وتدفنه وتعلقه في مشانق الأوهام، سكين تُضيء عتمات الكلام، وينابيع الشعوب. الموسيقا ظلال علينا أن نزرعها، ونسقيها بماء الفرح وأحيانا بمطر الحزن، ونحصدها، وننثرها كالورد كل صباح على قطار الزمن الذاهب إلى الحروب البشرية اليومية، ننثرها على المسافرين إلى حتفهم اليومي، لعلها تكسر الكراهية في قلوب الجنرالات والجنود فيرجعون إلى أطفالهم وزوجاتهم. لعلهم يتركون شهوة الدم ليوم واحد، ليوم واحد فقط كي لا نمارس جريمة قابيل ويتذكرون عتبات بيوتهم الصغيرة وأغاني زوجاتهم في الليل.
ي
يمتد الكلام عن الموسيقا ولا يقترب منها، تنفلت من قضبان الكلام والورق وتخترق المدى والقلب، أراها الآن عارية ومتدثرة بعشاقها وأصدقائها وأعدائها وتمضي في المدى كسحابة حاملة الرعود والغابات والأمطار والكوارث وأصوات الشهداء والمترفين والجياع. أرى عامل نظافة من كيريلا يمر في شوارع روي وينصت إلى موسيقا ،بلاده أرى امرأة في سفح جبل على بحيرة (فيوا) تحمل الماء والنبيذ والموسيقا إلى طريق المعبد، أراها جالسة على عتبة المقهى تُعد الماء البارد وتراتيل بوذا للذاهبين إلى معبدهم وللسائحات الأوروبيات الضجرات من شوارع أوروبا وحداثتها القاتلة، أرى الحالمين يدثرون أحلامهم بالموسيقا، أرى الثائرين يشعلون ثورتهم بدم الموسيقا، أرى الذاهبين نحو منافيهم يحملون الموسيقا مع تراب أوطانهم. أرى جنرالات يجرون الموسيقا معهم إلى معاركهم الخاسرة دائما، ويشعلون بها شهوة الدم في عيون وأحلام جنودهم.
ق
هي قافلة من قلق العمر والأحلام تقودنا إلى الشجرة الأولى التي تركناها تموت بالخطايا والجفاف. قلقة الموسيقا من نفسها وعلى نفسها، قلقة وهي تدرب أصبع الصوفي أو قدم الراقصة، هي الجارحة والمجروحة والجرح والدم والدمع ورائحة الحضور والغياب.
أيتها الموسيقا الكل يعشقُ ثمارك ودمك وحزنك وحنينك وجنونك وصفاءك، والكلُّ يحاول أن يفرشك على ترابه: الجنرال والسجين والراقصة والراعي والشاعر والمسافر والميت والمنفي والقاتل والقتيل والحديقة والصحراء والشرفة وبهو الفندق.
الكل يذهب إليكِ ويرجع مجروحا مكسورا وكاسرا قلبه. يا جامعة الأضداد وسارقة الضوء وشاعلة أحلام العاشقات ترفقي بدموع المتعبين في الأرض.
ا
قائمة أو جالسةً ليس مهما. المهم أنها في النهاية ترفع روحك إلى أعالي الدهشة أو تسبر أعماق الألم بداخلك. تجلس على الشرفة تُراقب مجانينها وأعداءها وهم يمضون إلى الطرقات وإلى ليلهم أو صباحاتهم. سيقول لك شاعر الموسيقا تنتهي بألف قائمة لأنها صاعدة بنا إلى عوالمها وجراحها. سيكتبها النّحوي جالسة أسفل السطر ، حتى لا يرتفع صوتها، لكنها ستباغته في نومه وتكسر قواعده الجامدة والمتجمدة، وترتفع من النافذة نحو المدى المفتوح على المجازات.
هي القادرة والمُقتدرة على جرّنا إلى عقر دهشتها وإلى تلال شهوتها بكل يسر والقادرة على التوغل إلى أقاصي الروح لتوقظ في دواخلنا الذكريات والدموع والفرح والخيبات. وهي القادرة أن تسرقنا من زمننا الواقعي وترمي بنا إلى زمنها الجمالي، والقادرة على نبش حنيننا إلى الأشياء، والقادرة على أن تُبكي عاشقة فقدت أنوثتها . ستظل الموسيقا واقفة في الأعالي والشرفات والأزقة والأزمنة الكونية جامعة الفقراء والمترفين في حبها.
دم العزلة
(1)
كم أنتِ أنانية أيتها الكتابة، أنانية بشكل مرعب، تأخذي الوقت والقلق والعزلة والعمر والفكرة ولا تمنحيننا سوى التعب والغربة.
في البيت، وفي الطريق وفي حصة الصباح، وفي المقهى وفي ضحكات طفلي، وفي عطش أشجار بيتي، في غياب أصدقائي، في ماء الغياب أو جحيم الحضور، في حرائق الحنين أو في عشب الفقد تكونين سيدة اللحظة، بمقدار التعب والشقاء أعشقك أيتها الكتابة ملاذي الأخير، ملاذي النهائي.
(2)
عن الكتابة أتحدّث عن الكتابة الخلاقة أكتب عن الكتابة الجمالية أبحث عن الكتابة السابرة للأشياء، والباحثة عن ظل الكائنات والجمادات، والذاهبة إلى عمق التفاصيل، والمنحازة كليا للهامشي، أحلم. عن الكتابة المتدفقة من الألم، أبحث كذلك عن كل ما سبق أُريدُ أن أكتب.
أكتب؛ لأن الكتابة صوتي المُعبّر عن وجـودي في هذه الحياة العابرة والخادعة والوهمية، أكتب لأمسك بفكرة عابرة في الصباح أو في الحكاية أو في الطفولة، أكتب لأن الكتابة تنبع من ينابيع الجمال الخالدة الكتابة التي تبحر ضد محيطات النسيان والتهميش والظلام.
أكتب لأجعل الألم الذي ينهش أرواحنا أكثر جمالا وأقل وجعا.
الكتابة نبع الإنسان الأول، الإنسان الذي رسم خوفه على جدران الكهوف، وتحوّلت الرسومات إلى كلمات تصطاد المجهول، وتحرث الأرض. تحوّلت رسومات الإنسان الأول في الصخور والجبال إلى قصائد تطير نحو فضاءات اللغة والأمكنة، تدحرجت الرسومات من جدران الكهوف الأولى للإنسان وصارت لها أجنحة ولغات وحراس وتلاميذ.
الكتابة الفعل وليست ردّة الفعل، الكتابة الجرح وليست الدم، الكتابة النابعة من ضوء الإنسان وليست المتدفقة من رغبات القبح والكراهية. الكتابة المقاومة بعمقها للتهميش وليست الكتابة الباحثة عن أضواء لتحترق فيها وبها ولها.
أكتب لأجعل صوت الرعاة في الجبال أكثر حنينا في الروح، أكتب لأغسل المرأة الذاهبة إلى النبع والموت والفقد، أغسلها بالكلام والدمع.
(3)
العزلة والكتابة هما دمُ الكائن وصوته. وموسيقا الروح التي لا ينصت لها سوى القلة. رأيتُ العزلة امرأة ذاهبة إلى الصحراء فتبعتها كأعمى يتبع صوت بصيرته، ورأيت الكتابة نبعا نقيا فشربت منه كي لا يغتالني قتلة الحياة والجمال والسلام.
الكتابة أرض نحرثها كلَّ صباح بالأحلام والنصوص والأفكار، والعزلة هي مطر لهذه الأرض التي ستزهر بعد زمن أو بعد عمر.
المجد كل المجد للكتابة وللعزلة.
(4)
عن عزلتك ستكتب، وعن عزلة الشجرة في الغابة، وعن عزلة نبع الماء في الجبال، وعن حزن الشاعر في القصيدة، ستكتب عن عزلة الكتابة، عن العزلة النبيلة النقية الطاهرة التي تدثر روحك ستكتب، العزلة التي تدرّب قلبك على الصمت. تعلم قلبك بأن الضوء محرقة الفراشات، ومذبحة المعرفة. وحدها الظلال أيها القلب تدرك كنه الأشياء وجوهرها الجمالي.
فلا تتبع شمس الجنرالات، ولا أضواء الوهم. عليك أن تنصت كصوفي لما تقوله الزوايا والظلال. وأن تراقب دهشة الطفل في المرآة، وأن تتأمل حزن النادلة في المقهى، وفي القصيدة. كن كأعمى يقود قطيع حكاياته في مرايا الزمن.
(5)
الكتابة التي لا تأتي، الكتابة التي تهرب كوعل جبلي من قفص الورق والشاشة، الكتابة التي تندس خلف عتبات الأشياء والأمكنة، والتي تنبثق من عمق الأفكار الساذجة والبسيطة، الكتابة التي تتدثر / تتعرى باللغة. الكتابة المتدفقة من الهوامش والهامشي والظلال والتلال، الكتابة السابرة عمق الألم والفرح والتفاصيل الصغيرة جدا، الكتابة الحُلم والواقع والمتخيل، الكتابة الممسكة باللحظة الآنية والمقبلة، الكتابة التي تُعذبك كجلاد أعمى، وتدهشك كضحكة طفل. الكتابة التي تقيدك بالفكرة كأنك متهم. الكتابة الجذر والشجرة والظل والناي والراعي هي التي أفكر فيها دائما.
(6)
عن عزلة الينابيع، وعزلة الشجرة، وعزلة الشاعر، وعزلة السجين، وعزلة الراعي، وعزلة الكلام، وعزلة المكان، سينطق الألم، عن ظلال العزلة التي تبحث عن الصوفي الغائب، وعن ضفاف العزلة الخلاقة، سيغني طائر أعمى في الليل. من غناء الطائر الأعمى سينهض طفل من مقبرته، ويتبع صوت الطائر الذي يقوده نحو الينابيع البعيدة في الجبال سينام الطفل تحت الشجرة الوحيدة المحاذية للنبع، في الليل سيسمع الطفل الشجرة تقول : ماذا يفعل اليتيم بموسيقا امرأة غائبة؟
م
ملح الكلام وسكره ودمه النازل من صوت الأشياء المنسية، وماء الكائن الذاهب بكل حواسه وحدسه الداخلي وخذلانه وظله الشفاف نحو شرفات الفرح، هي الموسيقا يا صديقي، تحملك ، وتدفنك وتجرحك وتغسلك وتفتح نوافذ ذاكرتك المثقلة والخفيفة في الوقت نفسه وطفولتك وحنينك، لا يهم إن كنتَ في طفولتك قد أحببت صوت أوتار العود في أغاني ميحد حمد وبن روغة ورددتها في الوديان والسيوح والجبال والضواحي وتحت ظلال النخيل، أو كنتَ تستمع لمقاطع موسيقية لموزارت أو بتهوفن أو باخ في شرفات شقتكم في إحدى عواصم الأرض أو ريفها. فالموسيقا هي الموسيقا تنحدر من سلالة نقية واحدة، ومن عرق واحد ومن نبع ،واحد من شريان الدهشة، ثم تندحق بأمطارها نحو جسد الأرض وأوردتها، ونحو الجهات، فهي لا تعرف العنصرية ولا العبودية هي ابنة الجمال، وهي أم الجمال والحرية والدهشة هي التي تطير إلى الآفاق بلا جناحين وتخترق حدود الأمكنة واللغات والأيودلوجيات، وتسقط على العتبات والتلال والذكريات من دون أن تنكسر أو تنجرح أو يفسد دمها أو تجف أغصانها.
و
واصلة ومتصلة ومتواصلة وأصيلة، الشعوب بذاكرة الأرض والدم والمكان والحروب والميلاد والدمع والضحكة، وهي وتد الطفل في جدار الأمومة، وهي عكاز الشيخوخة التي تقود أعمارنا إلى ينابيع الصفاء هي كحرف العطف في العربية. هي جذر اللغات وفرعها يا صديقي لا تبحث عن الموسيقا في الردهات ومحلات البيع والشراء، فالموسيقا أطهر من أن تُباع وتشترى، عليك فقط أن تنصت لصوت الريح وهي تعبر على أغصان الشجرة في باحة بيتك، أو تفتح نوافذ روحك لموسيقا الماء في السواقي، أو أن تغمض عينيك وتنصت لصوت يمامة في أطراف القرية ترفع هديلها لتعلن بداية صيف البلاد. أو أن تتخيل راعية وهي تقود الصباح والماشية وصوت الناي إلى السفوح والجبال بصوتها. عليك أن تنصت لصوت خطوات امرأة ذاهبة صباحا لموعد ،قديم، تنتظره منذ سنوات طويلة. خطواتها المسرعة ستقول لك ما الموسيقا؟
الموسيقا دمعة في خد صخرة منسية في جبل، أو علينا أن نتخيلها قطرة ماء يحملها طائر مسرعا لعشه، أو علينا أن نتخيلها صوت انغلاق نافذة قديمة في بيت طيني.
س
سهم جارح في كبد الزمن والحياة والأيدولوجيا التي تُحرّم الفرح وتدفنه وتعلقه في مشانق الأوهام، سكين تُضيء عتمات الكلام، وينابيع الشعوب. الموسيقا ظلال علينا أن نزرعها، ونسقيها بماء الفرح وأحيانا بمطر الحزن، ونحصدها، وننثرها كالورد كل صباح على قطار الزمن الذاهب إلى الحروب البشرية اليومية، ننثرها على المسافرين إلى حتفهم اليومي، لعلها تكسر الكراهية في قلوب الجنرالات والجنود فيرجعون إلى أطفالهم وزوجاتهم. لعلهم يتركون شهوة الدم ليوم واحد، ليوم واحد فقط كي لا نمارس جريمة قابيل ويتذكرون عتبات بيوتهم الصغيرة وأغاني زوجاتهم في الليل.
ي
يمتد الكلام عن الموسيقا ولا يقترب منها، تنفلت من قضبان الكلام والورق وتخترق المدى والقلب، أراها الآن عارية ومتدثرة بعشاقها وأصدقائها وأعدائها وتمضي في المدى كسحابة حاملة الرعود والغابات والأمطار والكوارث وأصوات الشهداء والمترفين والجياع. أرى عامل نظافة من كيريلا يمر في شوارع روي وينصت إلى موسيقا ،بلاده أرى امرأة في سفح جبل على بحيرة (فيوا) تحمل الماء والنبيذ والموسيقا إلى طريق المعبد، أراها جالسة على عتبة المقهى تُعد الماء البارد وتراتيل بوذا للذاهبين إلى معبدهم وللسائحات الأوروبيات الضجرات من شوارع أوروبا وحداثتها القاتلة، أرى الحالمين يدثرون أحلامهم بالموسيقا، أرى الثائرين يشعلون ثورتهم بدم الموسيقا، أرى الذاهبين نحو منافيهم يحملون الموسيقا مع تراب أوطانهم. أرى جنرالات يجرون الموسيقا معهم إلى معاركهم الخاسرة دائما، ويشعلون بها شهوة الدم في عيون وأحلام جنودهم.
ق
هي قافلة من قلق العمر والأحلام تقودنا إلى الشجرة الأولى التي تركناها تموت بالخطايا والجفاف. قلقة الموسيقا من نفسها وعلى نفسها، قلقة وهي تدرب أصبع الصوفي أو قدم الراقصة، هي الجارحة والمجروحة والجرح والدم والدمع ورائحة الحضور والغياب.
أيتها الموسيقا الكل يعشقُ ثمارك ودمك وحزنك وحنينك وجنونك وصفاءك، والكلُّ يحاول أن يفرشك على ترابه: الجنرال والسجين والراقصة والراعي والشاعر والمسافر والميت والمنفي والقاتل والقتيل والحديقة والصحراء والشرفة وبهو الفندق.
الكل يذهب إليكِ ويرجع مجروحا مكسورا وكاسرا قلبه. يا جامعة الأضداد وسارقة الضوء وشاعلة أحلام العاشقات ترفقي بدموع المتعبين في الأرض.
ا
قائمة أو جالسةً ليس مهما. المهم أنها في النهاية ترفع روحك إلى أعالي الدهشة أو تسبر أعماق الألم بداخلك. تجلس على الشرفة تُراقب مجانينها وأعداءها وهم يمضون إلى الطرقات وإلى ليلهم أو صباحاتهم. سيقول لك شاعر الموسيقا تنتهي بألف قائمة لأنها صاعدة بنا إلى عوالمها وجراحها. سيكتبها النّحوي جالسة أسفل السطر ، حتى لا يرتفع صوتها، لكنها ستباغته في نومه وتكسر قواعده الجامدة والمتجمدة، وترتفع من النافذة نحو المدى المفتوح على المجازات.
هي القادرة والمُقتدرة على جرّنا إلى عقر دهشتها وإلى تلال شهوتها بكل يسر والقادرة على التوغل إلى أقاصي الروح لتوقظ في دواخلنا الذكريات والدموع والفرح والخيبات. وهي القادرة أن تسرقنا من زمننا الواقعي وترمي بنا إلى زمنها الجمالي، والقادرة على نبش حنيننا إلى الأشياء، والقادرة على أن تُبكي عاشقة فقدت أنوثتها . ستظل الموسيقا واقفة في الأعالي والشرفات والأزقة والأزمنة الكونية جامعة الفقراء والمترفين في حبها.
دم العزلة
(1)
كم أنتِ أنانية أيتها الكتابة، أنانية بشكل مرعب، تأخذي الوقت والقلق والعزلة والعمر والفكرة ولا تمنحيننا سوى التعب والغربة.
في البيت، وفي الطريق وفي حصة الصباح، وفي المقهى وفي ضحكات طفلي، وفي عطش أشجار بيتي، في غياب أصدقائي، في ماء الغياب أو جحيم الحضور، في حرائق الحنين أو في عشب الفقد تكونين سيدة اللحظة، بمقدار التعب والشقاء أعشقك أيتها الكتابة ملاذي الأخير، ملاذي النهائي.
(2)
عن الكتابة أتحدّث عن الكتابة الخلاقة أكتب عن الكتابة الجمالية أبحث عن الكتابة السابرة للأشياء، والباحثة عن ظل الكائنات والجمادات، والذاهبة إلى عمق التفاصيل، والمنحازة كليا للهامشي، أحلم. عن الكتابة المتدفقة من الألم، أبحث كذلك عن كل ما سبق أُريدُ أن أكتب.
أكتب؛ لأن الكتابة صوتي المُعبّر عن وجـودي في هذه الحياة العابرة والخادعة والوهمية، أكتب لأمسك بفكرة عابرة في الصباح أو في الحكاية أو في الطفولة، أكتب لأن الكتابة تنبع من ينابيع الجمال الخالدة الكتابة التي تبحر ضد محيطات النسيان والتهميش والظلام.
أكتب لأجعل الألم الذي ينهش أرواحنا أكثر جمالا وأقل وجعا.
الكتابة نبع الإنسان الأول، الإنسان الذي رسم خوفه على جدران الكهوف، وتحوّلت الرسومات إلى كلمات تصطاد المجهول، وتحرث الأرض. تحوّلت رسومات الإنسان الأول في الصخور والجبال إلى قصائد تطير نحو فضاءات اللغة والأمكنة، تدحرجت الرسومات من جدران الكهوف الأولى للإنسان وصارت لها أجنحة ولغات وحراس وتلاميذ.
الكتابة الفعل وليست ردّة الفعل، الكتابة الجرح وليست الدم، الكتابة النابعة من ضوء الإنسان وليست المتدفقة من رغبات القبح والكراهية. الكتابة المقاومة بعمقها للتهميش وليست الكتابة الباحثة عن أضواء لتحترق فيها وبها ولها.
أكتب لأجعل صوت الرعاة في الجبال أكثر حنينا في الروح، أكتب لأغسل المرأة الذاهبة إلى النبع والموت والفقد، أغسلها بالكلام والدمع.
(3)
العزلة والكتابة هما دمُ الكائن وصوته. وموسيقا الروح التي لا ينصت لها سوى القلة. رأيتُ العزلة امرأة ذاهبة إلى الصحراء فتبعتها كأعمى يتبع صوت بصيرته، ورأيت الكتابة نبعا نقيا فشربت منه كي لا يغتالني قتلة الحياة والجمال والسلام.
الكتابة أرض نحرثها كلَّ صباح بالأحلام والنصوص والأفكار، والعزلة هي مطر لهذه الأرض التي ستزهر بعد زمن أو بعد عمر.
المجد كل المجد للكتابة وللعزلة.
(4)
عن عزلتك ستكتب، وعن عزلة الشجرة في الغابة، وعن عزلة نبع الماء في الجبال، وعن حزن الشاعر في القصيدة، ستكتب عن عزلة الكتابة، عن العزلة النبيلة النقية الطاهرة التي تدثر روحك ستكتب، العزلة التي تدرّب قلبك على الصمت. تعلم قلبك بأن الضوء محرقة الفراشات، ومذبحة المعرفة. وحدها الظلال أيها القلب تدرك كنه الأشياء وجوهرها الجمالي.
فلا تتبع شمس الجنرالات، ولا أضواء الوهم. عليك أن تنصت كصوفي لما تقوله الزوايا والظلال. وأن تراقب دهشة الطفل في المرآة، وأن تتأمل حزن النادلة في المقهى، وفي القصيدة. كن كأعمى يقود قطيع حكاياته في مرايا الزمن.
(5)
الكتابة التي لا تأتي، الكتابة التي تهرب كوعل جبلي من قفص الورق والشاشة، الكتابة التي تندس خلف عتبات الأشياء والأمكنة، والتي تنبثق من عمق الأفكار الساذجة والبسيطة، الكتابة التي تتدثر / تتعرى باللغة. الكتابة المتدفقة من الهوامش والهامشي والظلال والتلال، الكتابة السابرة عمق الألم والفرح والتفاصيل الصغيرة جدا، الكتابة الحُلم والواقع والمتخيل، الكتابة الممسكة باللحظة الآنية والمقبلة، الكتابة التي تُعذبك كجلاد أعمى، وتدهشك كضحكة طفل. الكتابة التي تقيدك بالفكرة كأنك متهم. الكتابة الجذر والشجرة والظل والناي والراعي هي التي أفكر فيها دائما.
(6)
عن عزلة الينابيع، وعزلة الشجرة، وعزلة الشاعر، وعزلة السجين، وعزلة الراعي، وعزلة الكلام، وعزلة المكان، سينطق الألم، عن ظلال العزلة التي تبحث عن الصوفي الغائب، وعن ضفاف العزلة الخلاقة، سيغني طائر أعمى في الليل. من غناء الطائر الأعمى سينهض طفل من مقبرته، ويتبع صوت الطائر الذي يقوده نحو الينابيع البعيدة في الجبال سينام الطفل تحت الشجرة الوحيدة المحاذية للنبع، في الليل سيسمع الطفل الشجرة تقول : ماذا يفعل اليتيم بموسيقا امرأة غائبة؟