رِسَالةٌ إلى أبي
Jérôme Tubiana
جيروم توبيانا (Jérôme Tubiana) كاتبٌ وصحافي ومصورٌ فِرنسي؛ غطّى صحفياً النزاعات في تشاد، السودان و القرن الأفريقي، منذما يزيد عن عشرين عاما. و كصحافي، فإنه يعمل لحساب مجلة ناشيونال جيوغرافيك - فرنسا، والـ لوموند ديبلوماتيك، (نقطة) القرن الحادي والعشرين، و ليبراسيون (التحرر). كما يتم نشر أعماله في دورية لندن للكتب، مجلة شؤون السياسة الخارجية، و دورية (مُراسلات). كذلك يعمل كباحث ومصور لمنظمات دولية، تتضمن الأمم المتحدة و مجموعة الأزمات الدولية، والتي يشغل فيها حاليا منصب كبير المحللين في شؤون السودان. جيروم توبيانا، هو ابن الإنثوغرافيّين الفرنسيين جوزيف وماري خوسيه توبيانا؛ والذي درس أحوال إثيوبيا، دارفور و تشاد. هذا المقال (الفصل) يكتبه جيروم، إسهاماً في تكريم والده الراحل. وقد تم نشره باللغة الفرنسية كجزء من كتاب أطول ( أحوال دارفور = Chroniques du Darfour ) - الناشر جيلان 2010 ..(Glénat - 2010)، ونسخته الإنجليزية في حاجة إلى ناشر.
نقله من اللغة الفرنسية للإنجليزية:-
- كولِن روبرتسون Colin Robertson .. ( يعمل مع عدد من المنظمات الإنمائية و الإنسانية غير الحكومية، مع التركيز بشكل خاص على السودان وأفريقيا الوسطى". يُقيم جيروم توبيانا حاليا في لوبومباشي ، جمهورية الكونغو الديمقراطية).
- بول ريف Paul Reeve ..( مترجم ومُحرِّر صحفي مستقل/ في الفرنسية والانكليزية .. يعيش فيما بين مونتريال، كيب تاون، برلين ، لندن، تورونتو ، فيكتوريا (كندا )، لشبونة، وباريس؛ ويحمل درجة في العلوم المعرفية و الكفاءات من الجامعات في مونتريال وباريس.
قرية بـَــهـــّاي – مايو2009
جار النبي، كان قد لاحظ أنك توفيت في نفس اليوم الذي قُتل فيه شقيقُه حسن 15 ديسمبر 2006 ؛ كنتَ في السابعة والتمانين تعيش في باريس، بينما كان حسن في الثامنة والثلاثين قتل في معركة بـــــ " الصياح " في شمال دارفور. قبل الحرب، كان جار النبي عبد الكريم ، وهو مدرس لعلم الأحياء، يمتلك نسخة من الكتاب الذي كنت وأمي كتبتماه عن مجموعته العرقية (الزغاوة). يبدو أنه متأكد من أن النسخة " كانت قد ضاعت لدى هجمة الجنجويد، على منزله في كتم، للمرّة التالية في أغسطس 2003. الجنجويد أمضوا ليلة في بيتي، دمّروا فيها كل شيء..! أخذوا البطانيات ، البساط ، والملابس، وكسـّروا التلفزيون و موقد النار. تركوا الكتب التي كنت قد جمعتها، وقد طلبتُ من جيراني البحث عنها".
فرَّ جارالنبي، عن المدينة، وانضمّ إلى جيش تحرير السودان ( SLA)، أكبر الفصائل الدارفورية المتمردة، تلك الأيام. شقيقه الأصغر حسن، والمُلقّب بــــ" بيجو" لذكرى السيارة التي كان يقودها، حينما كان يعمل سائقاً بدولة ليبيا، كان بالأساس عضواً بالفصيل المتمرد. تدرّج جارالنبي، ليصبح قائداً سياسياً بالــ"حــركة" بينما أصبح شقيقه حسن، واحداً من مُقاتلي "الحركة" القياديين، الأكثر شهرة. كنا نتبادل أخبارنا العائلية؛ جارالنبي يفكر في اتخاذ زوجة ثانية. " كان لي أخ واحد فقط ".. يقول موضّحا " عندما مات، عانيتُ كثيراً، أريد أن يكون لي الكثير من الأولاد، حتى لا يعانون ما عانيتُه. لو كان شقيقي حسن لا يزال حيــَّــاً، فإن المتمردين من الفصائل الأخرى، لم يكونوا ليحاولوا قتلي" . جارالنبي، كان أول وجهٍ مألوفٍ لديّ عند وصولي قرية "بَـهّاي". تلك القرية التي تقع في الشمال الشرقي لــــ تشــاد. على الحدود مع السودان. في المنطقة المعروفة بــــــ"وادي هَوَر" و الغابية لوحدها، في ذاك الإقليم الصحراوي الشاسع.
تغيرت بَهّاي كثيراً منذ أن كنتَ وإيّاي بها، قبل خمسة عشر عام. في ذلك الوقت كانت القرية أكثر قليلا من حفنة بيوت طينية من صُنع الأيدي، عِشنا في واحدٍ منها، حيث استقبلنا يوماً، "تيمان دِبِّي". ذات الشخص الذي أصبح "سلطاناً" فيما بعد، بنعمة شقيقه "إدريس دِبِّي" رئيس دولة تشاد منذ العام 1990. حالياً فإن السلطان تيمان، يستقبل ضيوفه على سجّادٍ منمّق من فرو النمور. كما أنّه الآنَ، أحد الداعمين الرئيسيين لمتمردي دارفور. خاصة حركة العدل والمساواة ( JEM )، والتي تنتمي قيادتها مثله، إلى قبيلة الزغاوة. بفضل تأييد السلطان تيمان، فالمتمردين قادرين على التحرك بحرية في جميع أنحاء "بَهّاي" وتجنيد المقاتلين في معسكر "أوري كاسوني". الذي يبعد عشرين كلم شمال بـَــهَّاي. يقعُ على حافة الصحراء، حيث تهبّ عليه الرياح الرملية بما لا يجعل من ذلك الصَّي ملاذا. "أوري كاسوني" يستضيف ستة وعشرين ألفاً من لاجئي دارفور.
قبل أيام قليلة، أذاع جارالنبي، على الراديو، دونما حماسٍ يُذكَر، بأنه قد انضمّ إلى حركة العدل والمساواة. في الأصل، فإن مجموعة صغيرة تشكّلت أساسا من عدد قليل من عشائر الزغاوة. تمّ ذلك على الحدود بين تشاد والسودان. نمت هذه المجموعة باطّراد، واستطاعت في مايو 2008 أن تمتلك المقدرة الكافية لشنّ غارة عسكرية على الخرطوم. منطلقة من العُمق التشادي، في قواعد كَـــ "بَـهّاي". التي تبعُد 1000 كيلومتر عن العاصمة السودانية الخرطوم. منذ ذلك الحين، انضمت فصائل متمردة أخرى، لـــ حركة العدل والمساواة، ولم تعُد عضويتها وَقفاً على قبيلة الزغاوة.
وسائل الإعلام تعطي الانطباع بألاّ جديد يحدُث في دارفور؛ وأن الحرب – والتي توصف من قِبَل البعض بأنها تطهير عِرقي يقع على الأفارقة من جانب الميليشيا العربية المعروفة بــ"الجنجويد" - تمضي بلا هوادة. لم تزل الفترة الأكثر احتراباً، هي تلك التي وقعت بين 2003 و 2004. منذ ذلك الحين، غرق الإقليم بكامله في مستنقع حرب الجميع، ضد الجميع؛ المتمردون ضد المتمردين، الجنجويد ضد الجنجويد. لقد سئم العرب من القيام بالأعمال القذرة نيابة عن الحكومة، والتي أبطأت في الوفاء بالوعود الذهبية التي قطعتها لهم. فانضمّ بعضهم إلى الثورة. جماعات التمرد انشقّتْ إلى فصائل متعددة، تحارب بعضها بعضا، كمثل حربها للحكومة.
على جلسةٍ فوق الرمل، أمام متجر بسوق "بَــهّاي"؛ أفادني جارالنبي، بــ إحصائيات حربه في الخمس سنوات التي مضتْ. بمجموع ثلاثة وعشرين معركة. سبعة عشر معركة منها ضد الحكومة والجنجويد، وستّ معارك ضد الفصائل المتمردة الأخرى. تغيـّر جارالنبي كثيراً، فقد حلـَـــق لحيته؛ كما يبدو متضجّراً من استمرار الحرب. إنّ هذا الرجل، والذي كان في ماضيه يهتمّ بأرضه فوق كل شيء آخر، يتصور لنفسه عيشاً في مكان يعمّه السلام، حتى إن كان ذاك المكان في أروبا، وإنه ينتظر مجيء أيام أفضل.
منذ خمسة عشر عاما مضت، كنتُ وإيّاك نتمشّى في سوق "بـهّاي". الشاحنات تجيء قادمة من ليبيا، مُســتَّــفة بالمسافرين والبضائع – يعود المسافرون إلى أوطانهم يحملون ثمرات الغُربة الصعبة – يتوقفون ها هنا. قبل مواصلة رحلتهم، سواء إلى داخل تشاد أو نحو السودان. الشاحنات لا تزال على عادتها تجيء، لكن البضائع لم تعُد تنسرب كُليَّة على الرمال..! فالآن هناك محلات تجارية ضخمة، حيث يمكنك أن تجد نفس المنتجات التي كانت متوافرة منذ خمسة عشر عاما، ولكن بكميات أكبر من ذلك بكثير: أعداد من براميل من الوقود، وكمّيات من عُلَب الصودا. تلك هي الأصناف المرغوبة، لا سيّما من جانب المقاتلين المتمردين.
في اليوم التالي للقائي بـــ جارالنبي. كنتُ بناحية واحدٍ من تلك المحلات التجارية، أتناول مستمتعاً البيبسي الليبية، في صُحبة بعض مقاتلي حركة العدل والمساواة. لا يزالون يعانون من جوع إلى الحرب. كثيرون منهم من الذين تمّ تجنيدهم حديثا، كانوا في طريق عودتهم من دارفور، وقد سـجــّلوا للتوِّ واحداً من انتصاراتهم المُهِمّة، حيث استولوا على بلدة صغيرة من الحكومة، اسمها "كورنوي". جاءوا بعد المعركة عبر الحدود. حتى يُنزلوا جرحاهم في المعسكر، ويلتقطوا المجندين الجدد من "أوري كاسوني".
بين أؤلئك المجندين الجُدد، فقد دهِشتُ بالتعرّف على المجنّد "محمد بحرالدين"، والذي كان قد التقيته أول مرة أواخر العام 2006 بـالقطاع ب في معسكر " أوري كاسوني"، في المنطقة المخصصة للاجئي "أمبورو". إنه الآن يرتدي الكاكي بديلا عن الجلاّبية النظيفة والعمامة، وفق ما كان يفعل قديماً حينما قابلتُه للمرة الأولى. هو رجل طويل القامة خفيف البدن؛ في الأربعينات من عُمره. محمد بحرالدين، سليل واحدة من أعرق أسر سلاطين الزغاوة. ابنُ عمِّ للملك علي محمدين، سلطان أمبورو؛ وكنتَ، يا والدي العزيز، قد عشتَ بينهم في عام 1965.
قبل اندلاع الحرب، كان محمد بحرالدين، معلم بمدرسة أمبورو، ويمتلك ثلاث شاحنات، تعمل في نقل البضائع بين دارفور والخرطوم وليبيا. سرعان ما أبغض مهنته في التدريس: "الوجاهة الاجتماعية دوماً ما ترتبط بمنطقة وادي النيل والخرطوم"، يقول محمد بحرالدين؛ "لقد أدركتُ مؤخّراً أن الخرطوم و دارفور بلدين مختلفين تماماً". كرجل أعمال متطلع، بدأ محمد بحرالدين، في الشعور بالظلم والتهميش، يقع عليهم في المناطق السودانية الطَرَفية، من قِبَل الجلاّبة. وَ الجلاّبة، هم العرب الذي يسكنون وادي النيل في السودان. يحتكرون السلطة والثروة منذ استقلال السودان في العام 1956. يواصل قائلاً: " عندما يقوم الزغاوة من أمثالي باستيراد البضائع من الخارج، علينا الخضوع لدفع ضرائب ثقيلة للدولة، بينما يُـعفَى الجلاّبة من نفس الرسوم الباهظة". لقد صادرت الحكومة واحدة من شاحناته في أبريل 2003، ثم قام بإعطاء الشاحنتين الأخريين لجيش تحرير السودان(SLA) بعد انضمامه للحركة. لقد كان ضمن وُحدة للحركة المتمردة، متمركزة في أمبورو، هجمتْ عليها القوات الحكومية في يناير 2004. "طائرات الأنتونوف أسقطتْ علينا أكثر من عشرين قنبلة" يواصل متذكِّراً: " من بعد، سمعت قافلة كبيرة تقترب؛ تمنيتُ أن تكون لجيش تحرير السودان، ولكن كان عليها إعلام الجيش الحكومي. اختبأتُ فرأيتُ "الجنجويد" يقتلون الناس بجزِّ أعناقهم". تمكـّن محمد بحرالدين، من الفرار إلى دولة تشاد. حيث أصبح نصفَ- لاجيء، وَ متمرِّداً إلاّ قليلا. اليوم، يعلّق جُلّ آمالِه على أقدار المتمردين كي يحرروا "أمبورو" كما فعلوا مع "كورنوي".
في صباح اليوم التالي، كنتُ جالساً على صندوق معدني كبير (تانكر)، مشبوك على امتداد ظهر شاحنة تايوتا بِك-أب (تاتشر)، مملوءاً بماءٍ للشراب ذي مذاقٍ بوقود السيارات. هذا الماء ذو المذاق الوقودي، هو الشراب الوحيد للمتمردين. عندما يكونوا قد غادروا ثلاجات البيبسي المليئة بـــ" بَـــهّاي". حولي، كان يجلس على كومة من الأبسطة والحقائب، خمسة أو ستة من مقاتلي حركة التمرد، وضمنهم محمد بحرالدين. ثلاثة منهم كانوا يتضمضمون على الجزء الأمامي الفوقي للسيارة، تتدلى أرجلهم على الفضاء العادي للزجاج الأمامي للسيارة؛ وقد تمّتْ إزالة الزجاج لإفساح المجال لماسورة الكلاشينكوف، سلاح المتمردين. السائق، واسمه، علي وافي، يستكشف الطريق، باحثاً من بين قَدَمَين تلبس ال"جاكـ بووت" من الجلد الأسود اللاّمع، وإلى قريب من الرُّكبة، يصيح قائلاً: " هووي آ جماعة، الآن خذوا راحتكم فنحنُ الآن في بلادنا" ثم يوقف السيارة مباشرة. جاري على اليسار، أزال من عمامته الجزء الذي يلثِّم أنفه، ثم استنشق بعُمق؛ ليقول متبسِّماً: " حتى الهواء هنا مُختَلِف". لقد عبَرنا لتوِّنا مَحَفــَّة من الرمال البيضاء، هي "وادي هَوَر"، وهي منطقة حدود - غير مرئية كثيراً – بين السودان وتشاد؛ حيث كتبتَ، يا والدي العزيز، حولها قبل أربعين سنة، فالزغاوة "نادراً ما ينزعجون عندها من الشكليات المتزيدة لمهمّة التفتيش الجُمركي".
منذ خمسة عشر عاما، كنا نسير بـ ـوادي هور في منطقة "الطينة"، إلى الجنوب قليلاً من هنا. بالنسبة للزغاوة، فهذه الحدود بالكاد موجودة. لكن بالنسبة لنا، لم يكن ميسوراً عبور هذه البضعِ مئات، من الأمتار الرملية؛ تلك التي تفصل "طينة" تشاد (حيث العُملة المتداوَلة هي نفسها الجنيه السوداني) من "طينة" السودان. نظام عمر البشير، في السودان، لم يكن كما هو عليه اليوم؛ لا سيما في تلازم السلطة العسكرية بالمصالح التجارية. فيما بعد، وتحت قيادة الآيديولوجي حسن الترابي، ظهرت الطموحات الدينية للنظام، لتكون دولة تشاد واحدة من مستهدفاتهم. كثيرون من أبناء دارفور، كانوا قد وضعوا آمالهم في الصبغة الإسلامية الفاقعة للنظام، وقد وعدت بالمساواة بين جميع السودانيين، أو على الأقل، المساواة بمسلمي شمال السودان.
في عام 1994، كان الدكتور خليل إبراهيم (رئيس حركة العدل والمساواة، الآن) وزيراً للتعليم في ولاية شمال دارفور. في ذلك الوقت، كان الدكتور مشغولاً بتجنيد شباب الزغاوة للذهاب والكفاح ضمن الميليشيات الحكومية في جنوب السودان. ما إنْ تمّ طرد الترابي من السلطة في عام 1999، حتى انفضّ مؤيِّدوه الدارفوريين عن النظام. من أمثال د. خليل إبراهيم، الذي أصبح معارضاً وكوّنَ "حركة العدل والمساوة". لم نكن قادرين في العام 1994 على عبور هذه الحدود. لقد كتبتَ (يا والدي) رسالة إلى سلطان "الطينة" بالسودان – وكان ابن عمٍّ للدكتور خليل- وكنتَ تعرف السلطان منذ 1965. كتابة الرسائل، كانت هي السبيل الوحيد للتواصل مع دارفور، حتى ولو كنت على غير أيّ توقّع باستجابة. " لا ينبغي لأحد أن يعوّل على التراسل في أفريقيا..! فالسفر أقرب مأتى ممّا تأمل تحقيقه بالكتابة" كما رأت والدتي، وهيَ مثلك، لم تعُد لدارفور منذ العام 1970.
كُـنتما الاثنين إثنوغـرافيين (عالِمي أجناس بشرية) ، وظيفة عجيبة..! تتجوّلان في القرية، تكسبا ثقة السُّكان، تسألا وتجاوبا الأسئلة حول غرائب العادات البشرية، تتشاركا الوَجبات، الشاي، البيوت، وحتى الأسِرَة. تلك الليلة حينما وصلتما "كورنوي"، بعد أن تعطّلت سيارتكما في الطريق، نهض الشرتاي تجاني الطيب، شيخ القرية، عن سريره المفروش بالملايات المُطرّزة – وهو السرير الذي يزاول منه شياخته أثناء النهار- ليمنحه بأريَحيّة لأمِّي تنام عليه. كنتَ يا والدي تحبّ العمل الميداني، وينتابك فيه شعور السمكة في الماء؛ كما كنتَ تقول. في بعض الأحيان، أجدُ نفسي متسائلاً: ماذا تراني أفعل هُنا ..؟ غارقاً لبضعة أسابيع في الحياة اليومية لبلدٍ في حالة حرب؛ مع إدراكي التامّ بأنني أمتلك بالفعل، تذكرة سفري للعودة. لا أعتقد أنه قد كانت لديك مثل هذه الشكوك؛ ذلك أنّك مولود في الجزائر "المستعمَرَة"، لا ترى نفسك كـــ "أوروبي" يستقصي باحثاً أحوال أجانب عنه. تأهّلك على منحة دراسية بمدرسة كولونيالية، جعلك ضليعاً في الثقافة، لكنّك، مع ذلك، بقيتَ أقرب لأهل البلد الأصليين، كما كانوا يقولوا هُنا. كذلك قد كنتَ كثير الحماس، ومن وقتٍ باكر، في دعم كل نضال نحو الاستقلال؛ وهنا في السودان، فإنني أراك يا أبي، تشعُر كأنما أنتَ في بلدك الأصلي، ووسط أهلك.
عندما عدتُّ من سفرتي الأولى إلى دارفور في عام 2004، جَهـِدتُّ كي أصف لك ما يجري. ربما كان ينبغي عليَّ، بدلاً عن ذلك، أن أدوِّنه لك، كما أفعل الآن. أنت نفسك تحب تدوين الوقائع المهمّة على الورق. لقد بدا كأنما أتحدث عن بلدٍ آخر..! ليسه بدارفور الرحبة تغدو في وئام. تلك التي قضيتَ فيها أنتَ، زماناً طويلاً من أربعين سنة مضتْ. في ذلك الزمان، كانت الأسلحة النارية نادرة الوجود. الخطورة الأكبر كانت ممثّلة في الحيوانات البرية. لقد أخبرتني، أنك في ليلة من عام 1965، وأنت تترجّل تاركاً سيارتك المعطّلة، متوجِّهاً إلى "كورنوي" مع رفقائك من الزغاوة؛ أنّ خوفهم الأكبر كان من الأسود. لقد عانيتُ صعوبة في التصديق، بأن الغزلان من نوع التياتل كانت موجودة ها هنا بالقُرب من "بــَـــهـــَّاي"؛ بل الأكثر استغراباً، أنه في ثلاثينيات القرن العشرين، كان "وادي هَوَر" موطناً للزراف. الجفاف أجبر البقية الناجية من الحيونات للزحف نحو الجنوب، فالحيوان كما الإنسان سواء في طلب النجاة. في تشرّفك الأخير بالبقاء في دارفور، العام 1970، سجّلتَ ملاحظاتك عن الآثار الناجمة عن أول سنة لم تنزل فيها الأمطار: "الأرض تدمرت حقا، وأصبحت طاردة. غادر الزغاوة منازلهم في اتجاه الجنوب بشكلٍ جماعي؛ إلى حيث يمكن للمرء أن يجد زرعاً. وجدنا القــُرى فارغة والأشجار، في معظمها، ماتت. لقد كان تصحــُّـــراً حقيقياً، والأمور تزداد ســوءاً.
هذا السهل الرملي، والذي أقطعِه الآن في سيارة علي وافي، بتوجيه محمد بحرالدين، كان قد شهِد في سنة من الستينيات، أمطاراً تبلغ 200مل. واليوم، لا يرتفع ما يبلغه من أمطار عن ال 100 مل. وهو المستوى المتوقع في المناطق الصحراوية. الشمسُ تشعّ لهيباً حينما أوقف السائق علي، عربته تحت شجرة ملتفّة الأغصان. يمكننا إلقاء النظر على تجمعات من مركبات حركة العدل والمساواة والمقاتلين، تحت الأشجار الكبيرة على الجوار. نشرنا مفارشنا واستلقينا تحت الظل. البعض وقع في النوم على الفور، بينما بدأت في التعرف على الآخرين. رفاق سفرتي لا يحبّون المتمردين الذين التقي بهم أيّ حين. لقد كانوا في معظمهم من العرب، ينتسبون إلى القبائل التي تقدّم أبنائها لميليشيات الحكومة. معظمهم في أقلّ من الثلاثين من أعمارهم. يقدمون أنفسهم باعتبارهم خريجين من جامعات الخرطوم، وأنّهم يئسوا من سياسات الحكومة، فالتحقوا بالثورة في العام 2005. من سفح الجبل، بدأوا في مهاجمة قوافل الحكومة، وبسرعة ركضوا تجاه المقاومة الأشد، لتنضمّ العُصبة إلى حركة العدل والمساواة في 2007.
علي وافي، كان يضطلع بدور الوسيط. هو في الثلاثين من عُمرِه، طويل القامة، في طلعة مُغنّي راب أمريكي. حائز على بكالوريوس في المحاسبة من جامعة النيلين في الخرطوم. تلك سيرته الذاتية الرسمية. داخل حركة العدل والمساواة، كان البعض ينظر إليه بعين الرِّيبة، زاعمين أنه في السابق، كان يتبع موسى هلال، القائد الأشهر للجنجويد. لكن المدافعين عنه، كانوا يردّون بضيقٍ؛ بأنّه قد قاتل بشجاعة في غارة الخرطوم. وبعد أن دمرت دبابة سيارته، اختبأ بالخرطوم لثلاثة أشهر، ثم عاد ببطء إلى دارفور . منسلاًّ بحذر من بين النقاط التفتيشية للحكومة، على طول الطريق. من الواضح أنّه انضمّ لحركة العدل والمساواة في أوائل عام 2009، ضمن أربعين أو نحو ذلك من العرب، الذين تجنّدوا حديثاً. . منذ ذلك الحين، تمثّل دوره في إقناع الجنجويد بتغيير وِجهتهم، بألاّ يحاربوا مع الحكومة.
في الظهيرة الفائتة، كُنّا قد تشاركنا الوجبة الواحدة لليوم. طبق ساخن من عصيدة الدخن. عند الغسق، أُطفئتِ النيران، وانتهى المدخنون من آخر سيجاراتهم؛ من الآن فصاعداً، لا مجال لطلب إيقاد أقلّ نار؛ ذلك أن الطائرات الحكومية تترصّد أيّ بُقعة ضوء. مضتْ فترة وجيزة قبل أن نعجز عن رؤية أي شيء، ثم استلقينا للنوم. لا يبدو أن هؤلاء الناس قلِقين من أزيز "الأنتونوف" فوق رؤوسنا؛ وفي فجر اليوم التالي، ذات الأزيز لطائرات الأنتونوف، كان قد أيقظني.
" كل صباح، كانت طائرة "الأنتنوف" تـُحيــِّــينا بال مرحبا، وفي المساء تعود لتُلقي علينا تحية الوداع " .. هكذا كان يمزح محمد بحرالدين. حقيقة الأمر، فالأنتنوف ليست طائرات قاذفة، وإنما فقط طائرات شحن روسية، ترمي قنابل بدائية، من خلال دحرجتها من أبواب التحميل الخلفية. فهي بلا أيِّ نصيب، في أي مستوىً من الدِّقَّة؛ لذلك يُلقِّبها المتمرون بـــ حاج وَهَم (البـَلهاء). لكن، مع عدم دِقّة الأنتنوف" في التصويب؛ إلاّ أنّ ذلك لا يمنع قادة المتمردين من التحوّط. بإخفاءٍ متسارع لآليات حركة العدل والمساواة، تحت الأشجار أثناء النهار.
حالما اختفى شبح الأنتونوف الأبيض من على الأفق؛ قفزنا إلى السيارة وغادرنا إلى "كورنوي". بسرعة كنا نجتاز ثلاثة خطوط متتالية من الخنادق، تخصّ قوات الحكومة؛ في اجتيازنا المكان، حيّانا عواء الكلاب الضالّة، تجوس خلال ذلك المكان المهجور، بعد أن تركها الجنود. كانت هذه الكلاب، هي الكائن الوحيد في تلك المنطقة مع الغربان، والتي كانت تلتقط غذائها من حُطام ما تبقى من طعام- حُبيبات فول تلتقطها الغِربان من كيسٍ ممزق- وكانت هناك دجاجة، وقد فكّرنا في مطاردتها عسى أن نحسِّن بها قليلاً من حَمِيَّتنا الغذائية.
توقّف علي وافي، بالسيارة وسط مبنى من الطوب المحروق، يتوسطه عدد من الأسِرّة، موائد وعدد من الكراسي التي تصاغرت هيئاتها إلى أقفاص حديدية سوداء. تجوَّل القوم داخل هذه القاعدة المحطّمة؛ والتي كان بعض القوم، قد حارب فيها قبل أيام قليلة مضتْ. المتمردون كانوا قد هجموا بسرعة، ومن الأنحاء الأربعة للقاعدة، يطلقون نيرانهم، لم يفقدوا سوى ثلاثة من صفوفهم، بينما كانت الخسائر كبيرة في الإصابات بين قوات الخرطوم، التي كانت معسكرة بهذا المكان؛ فيما لا يقل عن ألف رجل.
على آخر صفوف الخنادق، أعداد من الجنود الحكوميين يرقدون ميِّتين. يتوزّعون بين رُكام من "خرطوشات" العبوّات المُفرَغة، وأعقاب السيجائر. الأبواب نصف المفتوحة للمخابئ الخرسانية، تتكشّف عن متبقيّات صناديق الذخيرة. معالِم حَيـَوات كل مَنْ كان في الحامية الحكومية، تنتشـرُ في كل مكان: تلفزيون مهشّم الشاشة، بقايا صحُف قديمة، وأحذية لم يتوفّر الوقت لأصحابها كي ينتعلوها. مجموعة المتمردين الذين كنتُ مسافراً معهم، لم ينتفعوا من الغنائم المتواضعة بكثير شيء. ربما فقط: كتاب مدرسي للرياضيات، مرآة بلاستيكية صغيرة، علاوة على بعض "الزَّي الرسمي".
علي وافي، سائق مركبة المتمردين، انتزع ال "بوريه" و ال "بردلوبا" لجندي حكومي، أمام سارية علم السودان يتعلّق مُعطّلا، وعلى قاع ذات السارية، يرقد نُصُب تذكاري؛ عبارة عن لوحة شرف وامتنانٍ للجنود السودانيين؛ أؤلئك الذين صُرعوا في حرب العشرين عاماً، في جنوب السودان. ذاك التذكار الأليم، ألهــَمَ بابكر حَمدَين، خِرِّيج القانون ومُنظِّر هذه المجموعة المتمردة، كي ينطلق في تنظيره حول التهميش الواقع على الأقاليم السودانية؛ دارفور وَ الجنوب على حّدٍّ سواء. فجأة، قطَع حديثه علي وافي، مُخرِجاً إناء كبيراً من الفولاذ المقاوم للصدأ، جديداً لم يُستعمَل بعد. أمسك بابكر بالإناء الفولاذي، قائلاً: " سوف نقوم بطهو عشائنا فيه الليلة "؛ ثم حاول بابكر، التقاط خيط حديثه التنظيري من جديد، موجّهاً حديثَه لي: " كما ترى ..! فنحنُ قادون حتى على تحرير الـ أواني المنزلية من الجيش السوداني ".
المتمردون يحتاجون سِلعة السُّكَّر لتناول الشاي. ليس هناك من متاجر في هذه النواحي، حيث القليل من القُرى المتناثرة، والتي ما اعتادت بعد على مزاولة مشتروات اللوازم التموينية، لكن بعضهم أعطانا عنواناً لامرأة عجوز، مفزوعة كانت من القتال؛ اتّخذت لها ملجأ تحت شجيرات شوكية، تحتضن بضاعتها الهزيلة. ما إنْ أوقفنا سيارتنا أمام مشهدها النافر، حتى صدعت ثلاث صعقات من الرعد. قفز المتمردون من السيارة ليبركوا معاً، متحلّقين حول البضاعة، بينما جفلت المرأة العجوز إلى داخل وَهدةٍ كانت قد حفرتها في الرمل؛ في تحسّبٍ لما حدثَ بالتوِّ ؛ فقد أطلقت طائرة ميج مقاتلة، ثلاثة صواريخ، وقد تبيــَّنا ذلك من مشهد مسارٍ يتجمّع من ثلاث سُحُب، ما تزال تسبح في الجوِّ. الطائرة لم تكُن مرئية بالنسبة لنا، ولكن من المُحتَمَل، أنها قد صوّبت باتّجاه ما تبدّى لها عند التقاطها لسيارتنا.
المرأة العجوز ما تزال ترتعد من الخوف، عندما قام المتمردون بشراء السكر منها. إنها تتحدّث لغة الزغاوة فقط. طمأنها محمد بحرالدين، عبر الحديث معها بلغتهم. تقول إنها تتذكر أنه عندما كانت شابة، كان هناك زوج وزوجته من الخواجات، جاءاً وأقاما لفترة طويلة في كورنوي؛ مع الشرتاي تجاني. التفتَ محمد بحرالدين إليَّ قائلاً: " والديك".
والدي العزيز، هناك صورة لك، تسير أمام قصر الشرتاي. يبدو جليّاً أنك كنتَ ترتدي الجينز و الياقة المدورة، الزي الأقرب لموضة الستينيات. بجانب هذه التفاصيل، هناك معنى رمزي لهذه الصورة. يتّصل بتلك الأروقة البهية، مرصوفة بالطوب المحروق، تبدو على خلفية الصورة. واضح أنك كنتَ سعيداً للغاية. بدون شك، فقد كنتَ عائداً من جلسة مع الشرتاي. في السنوات التي أعقبتْ، كنتَ ما تزال، يا أبي، تذكُر المستوى المهيب والوقار القيادي لمسلكيات الزعامة في كورنوي. وقد خصَّصتَ كتاباً في إحياء ذكرى .. ( رجلٌ ذو ألمعية وقُدرة قيادية حكيمة .. كان لنا نِعم الصديق الوفي عبر أيامنا في دارفور ). جميع أفراد عائلته الذين التقيتُ بهم، يتذكـَّرون هذه الكلمات بفـَخرٍ شديد.
في مرةٍ بالفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور؛ دُعيت لتناول طعام الغداء في بيت الشرتاي آدم صبي، ابن ووريث الشرتاي التجاني. وكان آدم، يعيش في كورنوي من أيام بدء هجوم القوات الحكومية سنة 2004 على البلدة. قال لي أحدُ أشقّائه: " الجنجويد دخلوا بيتنا وأخذوا كل شيء ". ثم واصَل: " ربما أخذوا حتى الســِّكـــِّين التي أهداها أبوك لأبي عندما كان بمستشفىً في الخرطوم ".
كان يتحدث عن سكين الجيش السويسري، تلك التي أهديتها للشرتاي في سنة 1970 قُبيل وفاته بفترةٍ وجيزة. بعد خمسة و ثلاثين عاماً، ها أنذا أُجالِس أبناءه و أحفاده، حول قدحٍ كبير من لحوم الإبل. أعطَيتُ لواحدٍ منهم (عامر)، صورة لوالدته. سيدة شابة رائعــة كنتَ قد قابلتها يا أبي في 1965. هيَ الزوجة التاسعة، في ترتيب زيجات الشرتاي، وابنة واحد من شيوخ العرب.
قبل الحرب، كانت الزيجات المختلطة بين الزغاوة والعرب، من الأشياء الطبيعية، لا سيما بين عوائل الشيوخ والشراتي. وقد تمثّلت، تلك الزيجات، كوسيلة ناجعة في تفادي وتيسير حلول التنازعات القَبَليّة. بجانب عامر، كان يجلس شابٌ صغير السِّنِّ، وببشرَةٍ فاتحة. هو ابنٌ لـــ آدم صبي، أنجبه من زوجةٍ له تنتمي لقبيلة عربية (أولاد زيد)؛ وتلك قبيلةٌ تــُـــعَــدُّ من أكثر المتورطين في ميليشيات الجنجويد، مهاجَمَةً للزغاوة في منطقة كورنوي. بعد بُرهةٍ، قال لي الشاب الصغير، إنّه كثيراً ما راح عائداً إلى مدينة الجنينة في غرب دارفور، لزيارة أخواله العرب هناك ... فقال له رجلٌ كَهْلٌ مُـحتـَــــدَّاً، ونحن ما نزال جلوساً على مائدة الغداء : " أخوالك العرب، هُم أكبر الجنجويد ..". كل الحضور كانوا يعرفون، أن هذا الرجل الكهل، ينتمي لأكثر العشائر (العربية) عدواناً بين الفِرَق المتمرِّدة. فأجابه الشاب الصغير: " وأخوالك هُم أكبر تورا بورا " . فانفجر الجمع ضاحكين.
الـ(تورا بورا) اسمٌ مستعار للمتمردين، إشارة إلى سلسلة جبال أفغانية؛ حيث التجأ ابن لادن، ليتّقي القصف الأمريكي. كذلك يلوذ ثــوّار دارفور بالجبال، اختباءاً من الطائرات الحكومية؛ وبدون شك، فقد تمّ التقاط العبارة من الإعلام. بالطبع، فلم تسمع، يا أبي، هذه العبارة (تورا بورا) عندما كنت في دارفور. ولن تكون سمعتَ بكلمة (الجنجويد). رفقاء سفري، لم يكونوا سُعداء بأنّ يُطلَق على "عرب دارفور"، وبشكلٍ كُلِّي، أنّهم هُم الجنجويد. ولعلّ هذا واحد من الأسباب التي دعتهم للانضمام إلى التمرد، وذلك : " لإرسال رسالة فحواها، أن ليس كل عرب دارفور جنجويد".. هكذا يوضِّح لي عمر كـَرما. هو في السادسة والعشرين من عُمرِه، طالبٌ سابق؛ على دراية كبيرة بجرائم سرقات الإبل والاشتباكات القاتلة التي وقعت، حتى قبل الحرب الحالية. بين عشيرته والزغاوة. يــُقال إن أمه كانت تشتهر بأغاني الحماسة (حَكّامة)، تشجِّع مقاتلي العشيرة. كل ذلك لم يمنع أخته من الزواج برجلٍ من الزغاوة. " شقيقتي عندها ولد، هو معيَ الآن في حركة العدل والمساواة، فكيف لي أن أقاتل عائلتي؟"، يسألني عُمر.
نجلس تحت شجرة رقيقة الحال، بالكاد ترمي ظلاًّ كافٍ لإيوائنا. لكنّ هذا الرجل، والذي كان يتحدث لي بصوتٍ ناعم، ممتلئ قليلاً وعلى بِشرة فاتحة، في زيِّه العسكري الجديد بادياً عليه أنه لم يَخُض به معركة بعد، بدأ كأنه يتحدّث إلى العالم بأسرِه .. " والله [ يستقسم بالله العظيم] إننا ضد الذين يقولون إنّ العرب، هم مصدر كل المشاكل؛ ليس كلّنا مَنْ حرَق المنازل وقتل الناس، لكن البعض منّا غير متعلمين، لا يعون شيئاً، بالتالي فقد وجدتْ فيهم الحكومة، أنسب مَنْ يُمكِن تجنيدهم كقوى شعبية لها. الحكومة تسعى دوماً لاستغلال ضُـعفاء الناس".
ضُعفاء العرب هؤلاء، هُم الرُّحــَّل، الذين بقوا بعيدين عن المدارس والتنمية؛ لسبب ترحالهم المستمر عبر الصحارى والأدغال طلباً للمراعي؛ من شمال دارفور إلى جنوبها، كأنما عليهم أن يهيموا إلى ما لانهاية. عندما كنتَ مقيماً يا أبي، في قُرى الزغاوة، ستينيات القرن العشرين، لابد أنك التقيتَ بهم خُلسة، حيث تقول: " مجموعة من الرجال على إبلهم، يبدو عليهم أنّهم يأتون من تشاد، تقرّبنا إليهم وسعَيْنا إلى محادثتهم. إنهم يأتون من "لا مكان"، وذاهبون إلى "لا مكان"، كما أنّهم يعيشون بصورة غير مُستقرِّة في "لا مكان معلوم"، لا فائدة إذن من أي سعي لسبر أمرهم".. أؤلئك الرُّحَّل غير مرئيِّين على الدّوام، ما لم تنقدح الصراعات والتنازعات. لقد كتبتَ يا أبي: " ميدانيّاً، هناك في غالب الأمر، معارك شبه يومية؛ كانت تقوم استئثاراً للمراعى ومساقط المياه" .. لكن الزعماء التقليدين يحلّون هذه الاشتباكات الدائمة، بكل اليُسر والسهولة.
تلك الأمور، بدأت في التغيــُّر منذ الثمانينيات، وذلك عندما بدأت الأنظمة القابضة على الأمر في الخرطوم، قلِقة تميلُ لإحكام السيطرة على ما يجري في دارفور، وبأيِّ ثمن؛ فشرعتْ في تجييش الحُلفاء المُقرّبين لها؛ وهُم الناس الأكثر تهميشاً وسط المهمَّشين من الشعوب الدارفورية. كان العرب الرُّحَّل هم – مِثاليّاً - العملاء المُقرَّبون؛ حيث استطاعت الحكومة أن تستألفهم كرُصفاء هُوية عربية مشترَكة، بحسب زعومات النخبة العربية الحاكمة في الخرطوم : " في كل حينٍ تجيئنا الحكومة قائلةً لنا نحن جميعا عرب، أنتم قبائل عربية، نُريد أن نساعدكم" حسبما أخبرني عمر كـَراما.. مواصلاً بالقول : "عندما انضممت إلى حركة العدل والمساواة ، لم أشعُر مُطلقاً بأنني محسوب كــ عربي؛ بل كـــ ــدارفوري فقط" .. هل كان يقول الحقيقة .....؟ .. بالطبع، فــ تحتَ شجرة مجاورة، أرى عــبدو محمد، صبـيــَّاً عربيـَّاً، مع صـبيٍّ آخر من قبيلة البرتي - واحدة من القبائل الرئيسية غير العربية في دارفور - يبدوان كأفضل الأصدقاء؛ يتشاركا يومياً لعب الورَق، "تخميس" السجاير و قارورات الماء. يتمازحان مع بعضهما البعض، لا يفترقان إلاّ عندما يذهب أيُّ منهما لركوب السيارة المختلفة عن التي ركبها صديقه؛ إلى حيث تقلَّه في تحركاته لأداء العمل المنوط به. بعودة خاطفة إلى الوراء قليلا، كان محمد بحرالدين وبعض الزغاوة يشعرون بالضِّيق من وجود العرب بداخل جيش حركة العدل والمساواة؛ بل كثيراً ما تحدَّثوا في أوساط الزغاوة، لأجل ألاّ يحدث أيّ تفهّم للأمر.
" في البداية، كان الأمر بالغ الصعوبة، فالمُقاتلين من غير العرب، كانوا غاضبين حقّاً من وجود العرب داخل حركة العدل والمساواة. " قال لي واحدٌ من مؤسِّسي حركة العدل والمساواة. شارحاً لي الموقف، ثم واصل: " لقد استغرق الأمر منـّا قـَدراً كبيراً من الوقت، لإقناعهم بأن يتركوا الماضي بعيداً؛ فالمشكلة سوف يتمّ حلّها عندما يحارب العرب وغيرهم مع بعضهم البعض" . الآن، وعندما يوفِدُ منصور أرباب، أمين حركة العدل والمساواة لشؤون الرئاسة، جنوداً من غير العرب، إلى علي وافي، لأجل توصيل تعليمات أو رسالةٍ ما، تجدهم عل الدوام، يحملون الكلاشينكوف على أكتافهم.
منصور أرباب، هو الأمين والحارس المعروف للبوابة الرئاسية؛ لأي شخص يسعى للقاءٍ مع زعيم الحركة، ومؤسسها الدكتور خليل إبراهيم. في اليوم الثالث من إقامتي مع المتمردين، دعاني منصور، للجلوس معه في المقعد الأمامي لسيارته (البيك أب). والتي كانت ملطّخة بالطين تمويهاً. بل حتى مرايا الجوانب، كانت قد أزيلت تماماً، وذلك تفادياً لأي انعكاسات ضوئية تستدعي قذفاً من طائرات الأنتنوف الحكومية.
انطلقنا مرة أخرى للهروب من نطاق المراقبة الجوية. السماء بدتْ لنا خالية تماماً من أيِّ خطر؛ وقد انضممنا إلى قافلة (كونفوي) من نحو عشرين مركبة للمتمردين، تتبعنا ظُلَلٌ عاتية من الغُبار. واحدة من هذه السيارات المتحركة - دون استطاعة تمييزها بالتحديد- عليها الشخصُ الذي يوصف من جانب إذاعة صوت أمريكا؛ بأنه أكثر المطلوبين للقبض عليهم، من جانب حكومة السودان؛ والتي رصدت مكافأة بمائتي وخمسين ألف دولار، لمَنْ يُدلي بمعلوماتٍ تؤدي لقطع رأسه. هو الدكتور خليل إبراهيم، والذي تكلّفتُ أربعة أيامٍ، حتى أحصُل على لقاء معه، وهو رئيس حركة العدل والمساواة. هل السبب أنّ هذا مجرّد حذرٍ مُبرَّر؟ أم أنّه كقائد، يُريد إقناع زوّاره بأنّ المسؤولية المُلقاة على عاتقه جِدُّ هائلة؛ تماما كما كان عمّه السلطان المَهيب دوسة، سلطان الطينة السودانية، قد درَج على ذات الدّور. ما أن يُعلن عن وصول زائر، حتى يشرع السلطان – كعادته- في مغادرة قريته، خصَّيصاً لأجل أن يجعل زوّارِه ينتظرونه. في العام 1965، يا أبي، كان قد توجّب عليك أن تنتظر أربعة أيام حتى تنجز لقاءك مع السلطان.
السلطان دوسة، لم يكن حاكماً تقليدياً، فقد حرِص على إرسال البنات والأولاد إلى المدرسة؛ بادئاً هذا المنحى التربوي بأبنائه وبناته؛ كما راوده الطموح بفتح جامعة في منطقة "الطينة". مع ذلك فقد كانت للسلطان دوسة، شُهرته كحاكم فرد (طاغية)؛ وقد قيل لك، أنّه قد درَج على وضع مساجينه في سجون مليئة بالشَّـطَّة (الفلفل الحارق)، كما اعتاد السلطان على القول: " أنا الحكومة ". ابن أخته الدكتور خليل إبراهيم، يتمتع بنفس الشُّهرة. وهو من مواليد العام 1958 هو الآن طبيبٌ مُدرّب، وكذلك إسلاميٌّ متشدد منذ عهد الطلب الجامعي. شغل منصب وزير ومستشار للحكومة في دارفور وجنوب السودان خلال التسعينيات. يقول الدكتور، أنه خلال ذلك الوقت، تفتـّحت عيناه على الكثير: " عندما أصبحتُ مستشاراً للحكومة في جنوب السودان، وجدتُّ أنّ الناس لسيوا سواسية؛ كان هناك طوابيرٌ طويلة تتراصّ على بابي، من المعوِزين يتسوّلون الطعام والمال لضروراتهم الحياتية. في وقت لاحق، اضطُّررتُ لإنشاء منظمة لمكافحة الفقر. لقد أدركتُ أنّ متوسط العُمُر بين شعبي قصيرٌ للغاية؛ في الشمال، الخرطوم يُمكِن أن تصِل أعمار الناس لــ سبعين سنة أو أكثر، بينما في دارفور يموتون عند بلوغهم الأربعين سنة، وفي الجنوب يموتون قبل بلوغ ذلك ". لماذا يكون لأهلي متوسط عُمُر قصير؟ إننا نحتاج لحلٍّ جِذري.
ربما يكون الدكتور خليل، مُـحِـقـَّــــاً عندما يقول أنه لم يعـُد إسلامياً؛ ولكن بعض آثارِ تلك الأيّام، ما تزال باقية- إن لم تكُن في مظاهر الآيدلوجية الدينية- ربما صـَحّت في تملّكِه تحديداً ذات الحماسة الثورية. لقد استقبلني الدكتور خليل، وهو على سجّادة يتمدّد طرفها خارجاً من ظلّ شجرة منحنية، قُطِعتْ أغصانها الأدنى حتى لا تؤذي الجالسين تحتها: " أنت في المقر الرئيسي، هذا هو قصــرنا الرئاسي" قال لي ذلك مُمازحاً. وراءه، كان يقف جُندي شاب، في شكلٍ مُمَيـَّز ممتشقاً مدفع رشاش، مصوّب نحو الأرض. كان الجندي يقف بثباتٍ تام، طيلة فترة اللقاء. هذا هو حارس خليل، الشخصي. إلى جانبي كان يقف شاب آخر من الثوّار، يحضّر كاميرا صغيرة على رافعتها؛ فحواري مع د. خليل، سيتمّ تصويره، في ما يبدو، من جانب إدارةالشؤون الإعلامية بحركة العدل والمساواة.
الدكتور خليل، لم يكن مفتقراً لحلولٍ جذرية، كما كان يُسمـِّــيها، بقدرما كان يتساءل عن مستقبل مليوني مواطن نزحوا بسبب الحرب : " هل سيعودون إلى أكواخ القش...؟ تلك القابلة أن تحترق برصاصةٍ واحدة؛ لقد تدمّرت القُرى حتى أضحت رمادا. خـٌـطـَّــتنا الآن، تتمثل في بناء قـُرى بالمواد الثابتة، ليس بالحطب والقش. لقد قمنا بتصميم نموذجي لمنازل عائلية، تتكون من ثلاث غرف نوم، وغرفة معيشة، مطبخ، حمام ومراحيض. كل قرية ستكون من عشرين منزلاً. توجَد بها مدرسة ابتدائية لكلا الجنسين، عيادة طبية وملعب رياضة. إضافة للسوق، سيتوفر لكل قرية، الكهرباء والماء والغاز؛ وبعملية حسابية، وجدنا أننا نحتاج لــــ ستمائة ألف منزل. نحتاج أيضاً للطُرق المُعبّدة، والسكك الحديدية. كما يتطلب وضعنا توفير ما يزيد عن أربعمائة ألف فرصة عمل؛ وإنّ شعبي، لعاطلون عن العمل..! واجب الحكومة أن تصنع فُرَص العمل، أو تقوم بدفع إعانات البطالة، وإلاّ ماذا يأكل الناس؟ أين ينامون، كيف من المرض يتداوون، بل كيف يتعلّمون. كل هذه من مسؤوليات الحكومة. ما يجري الآن، هو أنّ الحكومة فقط تُطالِب الناس بدفع الضرائب، والانضواء في القوات المسلحة. الحكومة الحقيقية، هي التي لديها التزام برعاية مواطنيها " .
يوتوبيا (مِثالية المدينة الفاضلة) ..
الدكتور خليل، يبدو كأنما هو رجلٌ من زمنٍ آخر..! كـ ـزمن ستِّينيات القرن العشرين، حيثُ كان - في أفريقيا كما هو الحال في أوروبا – كل أمرٍ يبدو في حدود المُمكِن. فإن كنتَ قادراً على الهبوط على سطح القمر، فلماذا لا تجعل الصحراء تتفجّر مياهاً وقمحاً ..! ناهيك عن الطرق المعبدة والجامعات ..؟ إنني أعرف – يا أبي – القليل من أحلامك فيما مضى؛ بيد أنني أعي تماماً تجنّدك في حَملة استقلال دولة الجزائر؛ وأعرف كذلك، أنك أسهمتَ بعمل مشرف خلال فترتين أمضيتهما في السودان، علاوة على انضمامك لمظاهرات باريس (الثورة الطلابية الفرنسية في مواجهة سياسات ديجول) مايو 1968 إبّان تلك السنوات، كانت دارفور ممتلئة شباباً، كثيرون منهم لم يتقدّم بهم العُمر بعد؛ ولعله من العسير عليك أن تصدّق - يا والدي- أن الكثافة السكانية في دارفور، قد قفزت من حدود الواحد ونصف مليون نَسَمة في 1960 إلى ستة ملايين نَسَمة في هذه الأيام (2009). لقد حوّل كِبار السَّنِّ طموحاتهم في مستقبل مونق، إلى صِغار السِّنِّ (الشباب)؛ وقِطاع من الأخيرين، رفعوا السلاح لأجل تحقيق تلك الطموحات.
الدكتور خليل، رجلٌ حالِم. لقد حكى لي عن غارة حركة العدل والمساواة على الخرطوم، والتي كانت قبل عام واحد: " تسكنني دوماً حياتنا في هذه الصحاري، الصحراء الكُبرى، كأنما نبحِرُ في يَمٍّ وسيع. ها هنا فالطقس حار جداً، لقد كُنّا في شهر مايو؛ وعدد من الطائرات تحلِّق فوق رؤوسنا. تقصف هنا وهناك. كنا نريد الحصول على الماء من وادي الملك. لكن عرب الكبابيش المحليين منعونا الماء. فكّر بعضنا في أخذ الماء عنوة بالقوة. لكنني رفضتُ ذلك، ورأيتُ أن ندفع لهم مالاً مقابل الماء. أعادوا لنا المبلغ، في ما بعد، بل ووهبونا خروفين، قائلين لنا أنتم أناس صالحون، اذهبوا وغارموا (حاربوا) الخرطوم. في الخرطوم، كثيرين من الناس رحّبوا بنا. لم نكُن نعرفهم، كانوا مستبشرين بسعادةٍ غامرة، يصيحون: مرحبا بكم. إنّكم تستحقّون أن تحكموا هذه البلاد. لقد اقتنعتُ تماماً، يومها، أنّ الشعب يريد التغيير. كان الناس يقولون: القرود يسيطرون على الحُكم في البلاد، اسحقوا القرود. لقد كان الناس يعطوننا التفاح؛ وكانت فاكهة لم يرها كثيرون من جنودي قبل ذلك اليوم، كما أعطونا العنب والحليب، كل ذلك مجّاناً بغير فلوس.".
عيناه كانتا تسطعا خلف النظّارة المظللة، هناك مِسحَة يسوعية، تتبدّى في نبرة د. خليل وهو يُعلن: " الجميع مستعدّون للموت في الخرطوم. لأننا لا نُريد فقط القتال في المناطق النائية، عند الصحراء. نريد محاربة الحكومة في عُقر مركزها الخرطوم. جنودي كلّهم يرغبون في دخول الخرطوم. كنا نتوقع أن نستولي على السلطة هُناك، وليس التراجع إلى هُنا في دارفور؛ وفي المُنتَهى، فإننا على الأقل، قد أوصلنا رسالة واضحة إلى أهل الخرطوم: بأنه لن يمكنهم العَيش طويلاً دون أن ينتبهوا للحرب؛ أهل الخرطوم، لم يسمعوا مُطلقاً صوت الرصاص، وطالما أنه لا سلامٌ هُنا في درافور، فلن يكون هناك سلامٌ في الخرطوم. لم يكُن أحد يتوقّع أنه باستطاعتنا أن نتحرّك عسكرياً إلى الخرطوم ونقاتل من داخل المدينة؛ لقد أصبحنا الآن، الأكثر شُهرة وشعبية في البلاد عمّا مضى. من قبل هذه الغارة على الخرطوم، لم يكُن هناك العديدون من العرب بداخل حركة العدل والمساواة، أمّا الآن، في كلِّ يومٍ، فإنّهم يأتون. حرب 2009 لم تكن تشبه حروبات 2003؛ وقد بدأ الجنجويد يتلقّون خسائر فادحة.
الجنجويد كانوا اليد اليمنى لـــ عمر البشير ، والآن تحطّمتْ تلك اليد الآثمة. لن يتسنّى لها أن تدعم البشير، بعد الآن، لقد كلّفهم ذلك الدعم غالياً. أن تـُسانِد البشير، حالياً، فمعنى ذلك أن ...... " .. فجأة توقف الدكتور خليل عن حديثه جرّاء صوت انفجارات عنيفة، ثم واصل: "ما الأمر؟ (ده شــنو) صائحاً في رجالِه من حوله؛ والذين بدأوا في الهروب على كل الاتّجاهات؛ هُويْ، نصّبوا مدفع- مضاد الطائرات، رشاشات الدوشكا.. " ثم التفتَ لي قائلاً: " هذه هي طائرة ال ميج، فعندما تجيء طائرة من طراز الأنتونوف، فإنك تسمع صوتها من قبل وصولها؛ أمّا مع ال ميج، فتسمع زخّات رصاصها أوّلا. " أخذ د. خليل، قليلاً من شراب البيبسي الذي أمامه. قلتُ له وأنا مُبتسم :" إنهم يريدن قتلك أنتَ" ... " أيوة نعم، هو ذلك بالضبط ! " أجابني بزهوٍ، وهو يبتسم أيضا.
(الرجل، أكثر المطلوبين للقبض عليهم في السودان)..! إعلانٌ يمنحني انطباعاً، كأنني في سينماء حرب هوليودية، أو حوار استعراضي في محطة سي إن إن (الأمريكية) على الهواء مباشرةً من دارفور. يواصل دكتور خليل: " لهذا، وجبَ علينا تغيير المواقف حول السُلطة السياسية. لديهم جواسيس، إن قبضوا عليك، سـلّموك للحكومة." .. لم يكُن أحدٌ مِنّا – تحت الشجرة الظليلة – قد أُصيب جرّاء القصف الأخير. جنود العدل والمساواة، يستعدّون لمغادرة المكان قبل عودة الطائرات، أمّا الزعيم د. خليل، يبدو أنه لا يأبه كثيراً، يُريدنا أن نستأنف حديثنا. في لحظاتٍ معيّنة، يغمرني انطباع كأنّما الدكتور خليل، لم يكُن يخاطبني أنا بالذّات، بل كأنما يُخاطِب الرجل الذي حاول قتله قبل قليل! عُمر البشير (الرئيس السوداني): " في يومٍ قريب، سيتوسّل عمر البشير، طريقاً توصله إلى المحكمة الجنائية الدولية، ذلك أن تلك المحكمة لا تحكُم بقطع الرأس؛ أمّا هُنا، فإذا قبض جنودي عليه، فلا فُرصة حياة بالنسبة له." ..
بينما كان الدكتور خليل يتحدّث، بدا واضحاً أن رجال استخباراته قد نفدَ صبرهم. هبّ الدكتور خليل، واقفاً. البساط الذي كـُنــَّا نجلس عليه، قبل قليل، تمّ طيّه بسرعة ووضِع على السيارة الــ بك/أب. صعد الزعيم أخيراً، على مقعد الراكب بجوار السائق. سيارات أخرى انضمّت للركب. لتنطلق قافلة السيارات في خطّ سيرٍ عمودي متضخِّم. إلى ناحية المناطق الداخلية في دارفور. مخلــــّـــفةً ورائها سُحباً من الغُبار.
بالنسبة لي، فقد حان الوقت للتوجه في الاتجاه المعاكس، نحو الحدود التشادية، شرعتُ في وداعي للرجال الذين قضيتُ معهم أربعة أيام. قال لي محمد بحرالدين: " لقد وجدتني مستجدّاً في حركة العدل والمساواة، ولم يكن في إمكاني أن أقدّم لك الترحيب الملائم، لكن! عندما تعود إلينا مُستقبلاً، فسيكون لي ساعتها، سيارتي الخاصة " . الوِجهة التالية لتحركات حركة العدل والمساواة، كانت موطن محمد بحرالدين " أمبّورو". عند ذاك الصباح، كان محمد بحرالدين، يشرح لرفاقه، ومن خلال الرسم على الرمال؛ كيف سيقومون بتحرير موطنه. غداً ستذيعُ محطة بي بي سي : غزاة يستولون على قاعدة للجيش السوداني.
واقع الأمر، فقد كان القتال في "أمبورو" أشدّ عُنفاً منه في "كورنوي". لقد اضطــُّر الثـــُّوار للانسحاب عند الغسق، بعد ثلاث ساعات من العِراك حامي الوطيس. كانت الخسائر فادحة: أكثر من ثمانين قتيلاً، ومائتي جريح. بعد مرور شهرٍ كامل، وقد عـُدتُّ إلى فرنسا، تلقَّيتُ رسالة بالبريد الالكتروني من أحد الأصدقاء. كان يعمل في منظمة غير حكومية في "بـَهــَّـــاي" بتشاد: " قــُتــِلَ محمد بحرالدين .. في الهجوم على "أمـبّورو"، القوات الحكومية دمّرتْ سيارة علي وافي، وَ محمد بحرالدين، تعرّض لضربٍ متعدِّد ولعُدّة مرّات. حزينٌ أنا يا – والدي- أن أُنهي إليك هذه الأخبار المُحزِنة، فقد كان محمد بحرالدين، رجلٌ طيِّب القلب، لطيف المعشَر، وإن كان من عَــزاء، فإنه قد واجه مصيره وهو يدافع عن موطنه "أمبّورو".
خاتمة- ديسمبر 2013 ..
في ديسمبر من العام 2011، قــُــتِل الدكتور خليل إبراهيم، خلال غارة قصفية، تشبه كثيراً تلك الغارة التي وصفتُها لك آنفاً. حيث المكان بعيد عن دارفور، بمناطق كردفان؛ كذلك كان أوانها متزامناً مع بدء الجيش الشعبي لتحرير السودان، استئناف ما بدأه من ثورات تحريرية ضد الخرطوم، طيلة ثلاثين عاماً من الكفاح، تكللت ثمراتها بالاستقلال. حركة العدل والمساواة، تمكــَّنت من إنقاذ جثمان زعيمها د. خليل إبراهيم، كما عمِلتْ على إنشاء تحالف مع ثوّار كردفان؛ حتى تواصل في استراتيجيتها بنقل الحرب قريباً من الخرطوم.
نقله من اللغة الفرنسية للإنجليزية:-
- كولِن روبرتسون Colin Robertson .. ( يعمل مع عدد من المنظمات الإنمائية و الإنسانية غير الحكومية، مع التركيز بشكل خاص على السودان وأفريقيا الوسطى". يُقيم جيروم توبيانا حاليا في لوبومباشي ، جمهورية الكونغو الديمقراطية).
- بول ريف Paul Reeve ..( مترجم ومُحرِّر صحفي مستقل/ في الفرنسية والانكليزية .. يعيش فيما بين مونتريال، كيب تاون، برلين ، لندن، تورونتو ، فيكتوريا (كندا )، لشبونة، وباريس؛ ويحمل درجة في العلوم المعرفية و الكفاءات من الجامعات في مونتريال وباريس.
قرية بـَــهـــّاي – مايو2009
جار النبي، كان قد لاحظ أنك توفيت في نفس اليوم الذي قُتل فيه شقيقُه حسن 15 ديسمبر 2006 ؛ كنتَ في السابعة والتمانين تعيش في باريس، بينما كان حسن في الثامنة والثلاثين قتل في معركة بـــــ " الصياح " في شمال دارفور. قبل الحرب، كان جار النبي عبد الكريم ، وهو مدرس لعلم الأحياء، يمتلك نسخة من الكتاب الذي كنت وأمي كتبتماه عن مجموعته العرقية (الزغاوة). يبدو أنه متأكد من أن النسخة " كانت قد ضاعت لدى هجمة الجنجويد، على منزله في كتم، للمرّة التالية في أغسطس 2003. الجنجويد أمضوا ليلة في بيتي، دمّروا فيها كل شيء..! أخذوا البطانيات ، البساط ، والملابس، وكسـّروا التلفزيون و موقد النار. تركوا الكتب التي كنت قد جمعتها، وقد طلبتُ من جيراني البحث عنها".
فرَّ جارالنبي، عن المدينة، وانضمّ إلى جيش تحرير السودان ( SLA)، أكبر الفصائل الدارفورية المتمردة، تلك الأيام. شقيقه الأصغر حسن، والمُلقّب بــــ" بيجو" لذكرى السيارة التي كان يقودها، حينما كان يعمل سائقاً بدولة ليبيا، كان بالأساس عضواً بالفصيل المتمرد. تدرّج جارالنبي، ليصبح قائداً سياسياً بالــ"حــركة" بينما أصبح شقيقه حسن، واحداً من مُقاتلي "الحركة" القياديين، الأكثر شهرة. كنا نتبادل أخبارنا العائلية؛ جارالنبي يفكر في اتخاذ زوجة ثانية. " كان لي أخ واحد فقط ".. يقول موضّحا " عندما مات، عانيتُ كثيراً، أريد أن يكون لي الكثير من الأولاد، حتى لا يعانون ما عانيتُه. لو كان شقيقي حسن لا يزال حيــَّــاً، فإن المتمردين من الفصائل الأخرى، لم يكونوا ليحاولوا قتلي" . جارالنبي، كان أول وجهٍ مألوفٍ لديّ عند وصولي قرية "بَـهّاي". تلك القرية التي تقع في الشمال الشرقي لــــ تشــاد. على الحدود مع السودان. في المنطقة المعروفة بــــــ"وادي هَوَر" و الغابية لوحدها، في ذاك الإقليم الصحراوي الشاسع.
تغيرت بَهّاي كثيراً منذ أن كنتَ وإيّاي بها، قبل خمسة عشر عام. في ذلك الوقت كانت القرية أكثر قليلا من حفنة بيوت طينية من صُنع الأيدي، عِشنا في واحدٍ منها، حيث استقبلنا يوماً، "تيمان دِبِّي". ذات الشخص الذي أصبح "سلطاناً" فيما بعد، بنعمة شقيقه "إدريس دِبِّي" رئيس دولة تشاد منذ العام 1990. حالياً فإن السلطان تيمان، يستقبل ضيوفه على سجّادٍ منمّق من فرو النمور. كما أنّه الآنَ، أحد الداعمين الرئيسيين لمتمردي دارفور. خاصة حركة العدل والمساواة ( JEM )، والتي تنتمي قيادتها مثله، إلى قبيلة الزغاوة. بفضل تأييد السلطان تيمان، فالمتمردين قادرين على التحرك بحرية في جميع أنحاء "بَهّاي" وتجنيد المقاتلين في معسكر "أوري كاسوني". الذي يبعد عشرين كلم شمال بـَــهَّاي. يقعُ على حافة الصحراء، حيث تهبّ عليه الرياح الرملية بما لا يجعل من ذلك الصَّي ملاذا. "أوري كاسوني" يستضيف ستة وعشرين ألفاً من لاجئي دارفور.
قبل أيام قليلة، أذاع جارالنبي، على الراديو، دونما حماسٍ يُذكَر، بأنه قد انضمّ إلى حركة العدل والمساواة. في الأصل، فإن مجموعة صغيرة تشكّلت أساسا من عدد قليل من عشائر الزغاوة. تمّ ذلك على الحدود بين تشاد والسودان. نمت هذه المجموعة باطّراد، واستطاعت في مايو 2008 أن تمتلك المقدرة الكافية لشنّ غارة عسكرية على الخرطوم. منطلقة من العُمق التشادي، في قواعد كَـــ "بَـهّاي". التي تبعُد 1000 كيلومتر عن العاصمة السودانية الخرطوم. منذ ذلك الحين، انضمت فصائل متمردة أخرى، لـــ حركة العدل والمساواة، ولم تعُد عضويتها وَقفاً على قبيلة الزغاوة.
وسائل الإعلام تعطي الانطباع بألاّ جديد يحدُث في دارفور؛ وأن الحرب – والتي توصف من قِبَل البعض بأنها تطهير عِرقي يقع على الأفارقة من جانب الميليشيا العربية المعروفة بــ"الجنجويد" - تمضي بلا هوادة. لم تزل الفترة الأكثر احتراباً، هي تلك التي وقعت بين 2003 و 2004. منذ ذلك الحين، غرق الإقليم بكامله في مستنقع حرب الجميع، ضد الجميع؛ المتمردون ضد المتمردين، الجنجويد ضد الجنجويد. لقد سئم العرب من القيام بالأعمال القذرة نيابة عن الحكومة، والتي أبطأت في الوفاء بالوعود الذهبية التي قطعتها لهم. فانضمّ بعضهم إلى الثورة. جماعات التمرد انشقّتْ إلى فصائل متعددة، تحارب بعضها بعضا، كمثل حربها للحكومة.
على جلسةٍ فوق الرمل، أمام متجر بسوق "بَــهّاي"؛ أفادني جارالنبي، بــ إحصائيات حربه في الخمس سنوات التي مضتْ. بمجموع ثلاثة وعشرين معركة. سبعة عشر معركة منها ضد الحكومة والجنجويد، وستّ معارك ضد الفصائل المتمردة الأخرى. تغيـّر جارالنبي كثيراً، فقد حلـَـــق لحيته؛ كما يبدو متضجّراً من استمرار الحرب. إنّ هذا الرجل، والذي كان في ماضيه يهتمّ بأرضه فوق كل شيء آخر، يتصور لنفسه عيشاً في مكان يعمّه السلام، حتى إن كان ذاك المكان في أروبا، وإنه ينتظر مجيء أيام أفضل.
منذ خمسة عشر عاما مضت، كنتُ وإيّاك نتمشّى في سوق "بـهّاي". الشاحنات تجيء قادمة من ليبيا، مُســتَّــفة بالمسافرين والبضائع – يعود المسافرون إلى أوطانهم يحملون ثمرات الغُربة الصعبة – يتوقفون ها هنا. قبل مواصلة رحلتهم، سواء إلى داخل تشاد أو نحو السودان. الشاحنات لا تزال على عادتها تجيء، لكن البضائع لم تعُد تنسرب كُليَّة على الرمال..! فالآن هناك محلات تجارية ضخمة، حيث يمكنك أن تجد نفس المنتجات التي كانت متوافرة منذ خمسة عشر عاما، ولكن بكميات أكبر من ذلك بكثير: أعداد من براميل من الوقود، وكمّيات من عُلَب الصودا. تلك هي الأصناف المرغوبة، لا سيّما من جانب المقاتلين المتمردين.
في اليوم التالي للقائي بـــ جارالنبي. كنتُ بناحية واحدٍ من تلك المحلات التجارية، أتناول مستمتعاً البيبسي الليبية، في صُحبة بعض مقاتلي حركة العدل والمساواة. لا يزالون يعانون من جوع إلى الحرب. كثيرون منهم من الذين تمّ تجنيدهم حديثا، كانوا في طريق عودتهم من دارفور، وقد سـجــّلوا للتوِّ واحداً من انتصاراتهم المُهِمّة، حيث استولوا على بلدة صغيرة من الحكومة، اسمها "كورنوي". جاءوا بعد المعركة عبر الحدود. حتى يُنزلوا جرحاهم في المعسكر، ويلتقطوا المجندين الجدد من "أوري كاسوني".
بين أؤلئك المجندين الجُدد، فقد دهِشتُ بالتعرّف على المجنّد "محمد بحرالدين"، والذي كان قد التقيته أول مرة أواخر العام 2006 بـالقطاع ب في معسكر " أوري كاسوني"، في المنطقة المخصصة للاجئي "أمبورو". إنه الآن يرتدي الكاكي بديلا عن الجلاّبية النظيفة والعمامة، وفق ما كان يفعل قديماً حينما قابلتُه للمرة الأولى. هو رجل طويل القامة خفيف البدن؛ في الأربعينات من عُمره. محمد بحرالدين، سليل واحدة من أعرق أسر سلاطين الزغاوة. ابنُ عمِّ للملك علي محمدين، سلطان أمبورو؛ وكنتَ، يا والدي العزيز، قد عشتَ بينهم في عام 1965.
قبل اندلاع الحرب، كان محمد بحرالدين، معلم بمدرسة أمبورو، ويمتلك ثلاث شاحنات، تعمل في نقل البضائع بين دارفور والخرطوم وليبيا. سرعان ما أبغض مهنته في التدريس: "الوجاهة الاجتماعية دوماً ما ترتبط بمنطقة وادي النيل والخرطوم"، يقول محمد بحرالدين؛ "لقد أدركتُ مؤخّراً أن الخرطوم و دارفور بلدين مختلفين تماماً". كرجل أعمال متطلع، بدأ محمد بحرالدين، في الشعور بالظلم والتهميش، يقع عليهم في المناطق السودانية الطَرَفية، من قِبَل الجلاّبة. وَ الجلاّبة، هم العرب الذي يسكنون وادي النيل في السودان. يحتكرون السلطة والثروة منذ استقلال السودان في العام 1956. يواصل قائلاً: " عندما يقوم الزغاوة من أمثالي باستيراد البضائع من الخارج، علينا الخضوع لدفع ضرائب ثقيلة للدولة، بينما يُـعفَى الجلاّبة من نفس الرسوم الباهظة". لقد صادرت الحكومة واحدة من شاحناته في أبريل 2003، ثم قام بإعطاء الشاحنتين الأخريين لجيش تحرير السودان(SLA) بعد انضمامه للحركة. لقد كان ضمن وُحدة للحركة المتمردة، متمركزة في أمبورو، هجمتْ عليها القوات الحكومية في يناير 2004. "طائرات الأنتونوف أسقطتْ علينا أكثر من عشرين قنبلة" يواصل متذكِّراً: " من بعد، سمعت قافلة كبيرة تقترب؛ تمنيتُ أن تكون لجيش تحرير السودان، ولكن كان عليها إعلام الجيش الحكومي. اختبأتُ فرأيتُ "الجنجويد" يقتلون الناس بجزِّ أعناقهم". تمكـّن محمد بحرالدين، من الفرار إلى دولة تشاد. حيث أصبح نصفَ- لاجيء، وَ متمرِّداً إلاّ قليلا. اليوم، يعلّق جُلّ آمالِه على أقدار المتمردين كي يحرروا "أمبورو" كما فعلوا مع "كورنوي".
في صباح اليوم التالي، كنتُ جالساً على صندوق معدني كبير (تانكر)، مشبوك على امتداد ظهر شاحنة تايوتا بِك-أب (تاتشر)، مملوءاً بماءٍ للشراب ذي مذاقٍ بوقود السيارات. هذا الماء ذو المذاق الوقودي، هو الشراب الوحيد للمتمردين. عندما يكونوا قد غادروا ثلاجات البيبسي المليئة بـــ" بَـــهّاي". حولي، كان يجلس على كومة من الأبسطة والحقائب، خمسة أو ستة من مقاتلي حركة التمرد، وضمنهم محمد بحرالدين. ثلاثة منهم كانوا يتضمضمون على الجزء الأمامي الفوقي للسيارة، تتدلى أرجلهم على الفضاء العادي للزجاج الأمامي للسيارة؛ وقد تمّتْ إزالة الزجاج لإفساح المجال لماسورة الكلاشينكوف، سلاح المتمردين. السائق، واسمه، علي وافي، يستكشف الطريق، باحثاً من بين قَدَمَين تلبس ال"جاكـ بووت" من الجلد الأسود اللاّمع، وإلى قريب من الرُّكبة، يصيح قائلاً: " هووي آ جماعة، الآن خذوا راحتكم فنحنُ الآن في بلادنا" ثم يوقف السيارة مباشرة. جاري على اليسار، أزال من عمامته الجزء الذي يلثِّم أنفه، ثم استنشق بعُمق؛ ليقول متبسِّماً: " حتى الهواء هنا مُختَلِف". لقد عبَرنا لتوِّنا مَحَفــَّة من الرمال البيضاء، هي "وادي هَوَر"، وهي منطقة حدود - غير مرئية كثيراً – بين السودان وتشاد؛ حيث كتبتَ، يا والدي العزيز، حولها قبل أربعين سنة، فالزغاوة "نادراً ما ينزعجون عندها من الشكليات المتزيدة لمهمّة التفتيش الجُمركي".
منذ خمسة عشر عاما، كنا نسير بـ ـوادي هور في منطقة "الطينة"، إلى الجنوب قليلاً من هنا. بالنسبة للزغاوة، فهذه الحدود بالكاد موجودة. لكن بالنسبة لنا، لم يكن ميسوراً عبور هذه البضعِ مئات، من الأمتار الرملية؛ تلك التي تفصل "طينة" تشاد (حيث العُملة المتداوَلة هي نفسها الجنيه السوداني) من "طينة" السودان. نظام عمر البشير، في السودان، لم يكن كما هو عليه اليوم؛ لا سيما في تلازم السلطة العسكرية بالمصالح التجارية. فيما بعد، وتحت قيادة الآيديولوجي حسن الترابي، ظهرت الطموحات الدينية للنظام، لتكون دولة تشاد واحدة من مستهدفاتهم. كثيرون من أبناء دارفور، كانوا قد وضعوا آمالهم في الصبغة الإسلامية الفاقعة للنظام، وقد وعدت بالمساواة بين جميع السودانيين، أو على الأقل، المساواة بمسلمي شمال السودان.
في عام 1994، كان الدكتور خليل إبراهيم (رئيس حركة العدل والمساواة، الآن) وزيراً للتعليم في ولاية شمال دارفور. في ذلك الوقت، كان الدكتور مشغولاً بتجنيد شباب الزغاوة للذهاب والكفاح ضمن الميليشيات الحكومية في جنوب السودان. ما إنْ تمّ طرد الترابي من السلطة في عام 1999، حتى انفضّ مؤيِّدوه الدارفوريين عن النظام. من أمثال د. خليل إبراهيم، الذي أصبح معارضاً وكوّنَ "حركة العدل والمساوة". لم نكن قادرين في العام 1994 على عبور هذه الحدود. لقد كتبتَ (يا والدي) رسالة إلى سلطان "الطينة" بالسودان – وكان ابن عمٍّ للدكتور خليل- وكنتَ تعرف السلطان منذ 1965. كتابة الرسائل، كانت هي السبيل الوحيد للتواصل مع دارفور، حتى ولو كنت على غير أيّ توقّع باستجابة. " لا ينبغي لأحد أن يعوّل على التراسل في أفريقيا..! فالسفر أقرب مأتى ممّا تأمل تحقيقه بالكتابة" كما رأت والدتي، وهيَ مثلك، لم تعُد لدارفور منذ العام 1970.
كُـنتما الاثنين إثنوغـرافيين (عالِمي أجناس بشرية) ، وظيفة عجيبة..! تتجوّلان في القرية، تكسبا ثقة السُّكان، تسألا وتجاوبا الأسئلة حول غرائب العادات البشرية، تتشاركا الوَجبات، الشاي، البيوت، وحتى الأسِرَة. تلك الليلة حينما وصلتما "كورنوي"، بعد أن تعطّلت سيارتكما في الطريق، نهض الشرتاي تجاني الطيب، شيخ القرية، عن سريره المفروش بالملايات المُطرّزة – وهو السرير الذي يزاول منه شياخته أثناء النهار- ليمنحه بأريَحيّة لأمِّي تنام عليه. كنتَ يا والدي تحبّ العمل الميداني، وينتابك فيه شعور السمكة في الماء؛ كما كنتَ تقول. في بعض الأحيان، أجدُ نفسي متسائلاً: ماذا تراني أفعل هُنا ..؟ غارقاً لبضعة أسابيع في الحياة اليومية لبلدٍ في حالة حرب؛ مع إدراكي التامّ بأنني أمتلك بالفعل، تذكرة سفري للعودة. لا أعتقد أنه قد كانت لديك مثل هذه الشكوك؛ ذلك أنّك مولود في الجزائر "المستعمَرَة"، لا ترى نفسك كـــ "أوروبي" يستقصي باحثاً أحوال أجانب عنه. تأهّلك على منحة دراسية بمدرسة كولونيالية، جعلك ضليعاً في الثقافة، لكنّك، مع ذلك، بقيتَ أقرب لأهل البلد الأصليين، كما كانوا يقولوا هُنا. كذلك قد كنتَ كثير الحماس، ومن وقتٍ باكر، في دعم كل نضال نحو الاستقلال؛ وهنا في السودان، فإنني أراك يا أبي، تشعُر كأنما أنتَ في بلدك الأصلي، ووسط أهلك.
عندما عدتُّ من سفرتي الأولى إلى دارفور في عام 2004، جَهـِدتُّ كي أصف لك ما يجري. ربما كان ينبغي عليَّ، بدلاً عن ذلك، أن أدوِّنه لك، كما أفعل الآن. أنت نفسك تحب تدوين الوقائع المهمّة على الورق. لقد بدا كأنما أتحدث عن بلدٍ آخر..! ليسه بدارفور الرحبة تغدو في وئام. تلك التي قضيتَ فيها أنتَ، زماناً طويلاً من أربعين سنة مضتْ. في ذلك الزمان، كانت الأسلحة النارية نادرة الوجود. الخطورة الأكبر كانت ممثّلة في الحيوانات البرية. لقد أخبرتني، أنك في ليلة من عام 1965، وأنت تترجّل تاركاً سيارتك المعطّلة، متوجِّهاً إلى "كورنوي" مع رفقائك من الزغاوة؛ أنّ خوفهم الأكبر كان من الأسود. لقد عانيتُ صعوبة في التصديق، بأن الغزلان من نوع التياتل كانت موجودة ها هنا بالقُرب من "بــَـــهـــَّاي"؛ بل الأكثر استغراباً، أنه في ثلاثينيات القرن العشرين، كان "وادي هَوَر" موطناً للزراف. الجفاف أجبر البقية الناجية من الحيونات للزحف نحو الجنوب، فالحيوان كما الإنسان سواء في طلب النجاة. في تشرّفك الأخير بالبقاء في دارفور، العام 1970، سجّلتَ ملاحظاتك عن الآثار الناجمة عن أول سنة لم تنزل فيها الأمطار: "الأرض تدمرت حقا، وأصبحت طاردة. غادر الزغاوة منازلهم في اتجاه الجنوب بشكلٍ جماعي؛ إلى حيث يمكن للمرء أن يجد زرعاً. وجدنا القــُرى فارغة والأشجار، في معظمها، ماتت. لقد كان تصحــُّـــراً حقيقياً، والأمور تزداد ســوءاً.
هذا السهل الرملي، والذي أقطعِه الآن في سيارة علي وافي، بتوجيه محمد بحرالدين، كان قد شهِد في سنة من الستينيات، أمطاراً تبلغ 200مل. واليوم، لا يرتفع ما يبلغه من أمطار عن ال 100 مل. وهو المستوى المتوقع في المناطق الصحراوية. الشمسُ تشعّ لهيباً حينما أوقف السائق علي، عربته تحت شجرة ملتفّة الأغصان. يمكننا إلقاء النظر على تجمعات من مركبات حركة العدل والمساواة والمقاتلين، تحت الأشجار الكبيرة على الجوار. نشرنا مفارشنا واستلقينا تحت الظل. البعض وقع في النوم على الفور، بينما بدأت في التعرف على الآخرين. رفاق سفرتي لا يحبّون المتمردين الذين التقي بهم أيّ حين. لقد كانوا في معظمهم من العرب، ينتسبون إلى القبائل التي تقدّم أبنائها لميليشيات الحكومة. معظمهم في أقلّ من الثلاثين من أعمارهم. يقدمون أنفسهم باعتبارهم خريجين من جامعات الخرطوم، وأنّهم يئسوا من سياسات الحكومة، فالتحقوا بالثورة في العام 2005. من سفح الجبل، بدأوا في مهاجمة قوافل الحكومة، وبسرعة ركضوا تجاه المقاومة الأشد، لتنضمّ العُصبة إلى حركة العدل والمساواة في 2007.
علي وافي، كان يضطلع بدور الوسيط. هو في الثلاثين من عُمرِه، طويل القامة، في طلعة مُغنّي راب أمريكي. حائز على بكالوريوس في المحاسبة من جامعة النيلين في الخرطوم. تلك سيرته الذاتية الرسمية. داخل حركة العدل والمساواة، كان البعض ينظر إليه بعين الرِّيبة، زاعمين أنه في السابق، كان يتبع موسى هلال، القائد الأشهر للجنجويد. لكن المدافعين عنه، كانوا يردّون بضيقٍ؛ بأنّه قد قاتل بشجاعة في غارة الخرطوم. وبعد أن دمرت دبابة سيارته، اختبأ بالخرطوم لثلاثة أشهر، ثم عاد ببطء إلى دارفور . منسلاًّ بحذر من بين النقاط التفتيشية للحكومة، على طول الطريق. من الواضح أنّه انضمّ لحركة العدل والمساواة في أوائل عام 2009، ضمن أربعين أو نحو ذلك من العرب، الذين تجنّدوا حديثاً. . منذ ذلك الحين، تمثّل دوره في إقناع الجنجويد بتغيير وِجهتهم، بألاّ يحاربوا مع الحكومة.
في الظهيرة الفائتة، كُنّا قد تشاركنا الوجبة الواحدة لليوم. طبق ساخن من عصيدة الدخن. عند الغسق، أُطفئتِ النيران، وانتهى المدخنون من آخر سيجاراتهم؛ من الآن فصاعداً، لا مجال لطلب إيقاد أقلّ نار؛ ذلك أن الطائرات الحكومية تترصّد أيّ بُقعة ضوء. مضتْ فترة وجيزة قبل أن نعجز عن رؤية أي شيء، ثم استلقينا للنوم. لا يبدو أن هؤلاء الناس قلِقين من أزيز "الأنتونوف" فوق رؤوسنا؛ وفي فجر اليوم التالي، ذات الأزيز لطائرات الأنتونوف، كان قد أيقظني.
" كل صباح، كانت طائرة "الأنتنوف" تـُحيــِّــينا بال مرحبا، وفي المساء تعود لتُلقي علينا تحية الوداع " .. هكذا كان يمزح محمد بحرالدين. حقيقة الأمر، فالأنتنوف ليست طائرات قاذفة، وإنما فقط طائرات شحن روسية، ترمي قنابل بدائية، من خلال دحرجتها من أبواب التحميل الخلفية. فهي بلا أيِّ نصيب، في أي مستوىً من الدِّقَّة؛ لذلك يُلقِّبها المتمرون بـــ حاج وَهَم (البـَلهاء). لكن، مع عدم دِقّة الأنتنوف" في التصويب؛ إلاّ أنّ ذلك لا يمنع قادة المتمردين من التحوّط. بإخفاءٍ متسارع لآليات حركة العدل والمساواة، تحت الأشجار أثناء النهار.
حالما اختفى شبح الأنتونوف الأبيض من على الأفق؛ قفزنا إلى السيارة وغادرنا إلى "كورنوي". بسرعة كنا نجتاز ثلاثة خطوط متتالية من الخنادق، تخصّ قوات الحكومة؛ في اجتيازنا المكان، حيّانا عواء الكلاب الضالّة، تجوس خلال ذلك المكان المهجور، بعد أن تركها الجنود. كانت هذه الكلاب، هي الكائن الوحيد في تلك المنطقة مع الغربان، والتي كانت تلتقط غذائها من حُطام ما تبقى من طعام- حُبيبات فول تلتقطها الغِربان من كيسٍ ممزق- وكانت هناك دجاجة، وقد فكّرنا في مطاردتها عسى أن نحسِّن بها قليلاً من حَمِيَّتنا الغذائية.
توقّف علي وافي، بالسيارة وسط مبنى من الطوب المحروق، يتوسطه عدد من الأسِرّة، موائد وعدد من الكراسي التي تصاغرت هيئاتها إلى أقفاص حديدية سوداء. تجوَّل القوم داخل هذه القاعدة المحطّمة؛ والتي كان بعض القوم، قد حارب فيها قبل أيام قليلة مضتْ. المتمردون كانوا قد هجموا بسرعة، ومن الأنحاء الأربعة للقاعدة، يطلقون نيرانهم، لم يفقدوا سوى ثلاثة من صفوفهم، بينما كانت الخسائر كبيرة في الإصابات بين قوات الخرطوم، التي كانت معسكرة بهذا المكان؛ فيما لا يقل عن ألف رجل.
على آخر صفوف الخنادق، أعداد من الجنود الحكوميين يرقدون ميِّتين. يتوزّعون بين رُكام من "خرطوشات" العبوّات المُفرَغة، وأعقاب السيجائر. الأبواب نصف المفتوحة للمخابئ الخرسانية، تتكشّف عن متبقيّات صناديق الذخيرة. معالِم حَيـَوات كل مَنْ كان في الحامية الحكومية، تنتشـرُ في كل مكان: تلفزيون مهشّم الشاشة، بقايا صحُف قديمة، وأحذية لم يتوفّر الوقت لأصحابها كي ينتعلوها. مجموعة المتمردين الذين كنتُ مسافراً معهم، لم ينتفعوا من الغنائم المتواضعة بكثير شيء. ربما فقط: كتاب مدرسي للرياضيات، مرآة بلاستيكية صغيرة، علاوة على بعض "الزَّي الرسمي".
علي وافي، سائق مركبة المتمردين، انتزع ال "بوريه" و ال "بردلوبا" لجندي حكومي، أمام سارية علم السودان يتعلّق مُعطّلا، وعلى قاع ذات السارية، يرقد نُصُب تذكاري؛ عبارة عن لوحة شرف وامتنانٍ للجنود السودانيين؛ أؤلئك الذين صُرعوا في حرب العشرين عاماً، في جنوب السودان. ذاك التذكار الأليم، ألهــَمَ بابكر حَمدَين، خِرِّيج القانون ومُنظِّر هذه المجموعة المتمردة، كي ينطلق في تنظيره حول التهميش الواقع على الأقاليم السودانية؛ دارفور وَ الجنوب على حّدٍّ سواء. فجأة، قطَع حديثه علي وافي، مُخرِجاً إناء كبيراً من الفولاذ المقاوم للصدأ، جديداً لم يُستعمَل بعد. أمسك بابكر بالإناء الفولاذي، قائلاً: " سوف نقوم بطهو عشائنا فيه الليلة "؛ ثم حاول بابكر، التقاط خيط حديثه التنظيري من جديد، موجّهاً حديثَه لي: " كما ترى ..! فنحنُ قادون حتى على تحرير الـ أواني المنزلية من الجيش السوداني ".
المتمردون يحتاجون سِلعة السُّكَّر لتناول الشاي. ليس هناك من متاجر في هذه النواحي، حيث القليل من القُرى المتناثرة، والتي ما اعتادت بعد على مزاولة مشتروات اللوازم التموينية، لكن بعضهم أعطانا عنواناً لامرأة عجوز، مفزوعة كانت من القتال؛ اتّخذت لها ملجأ تحت شجيرات شوكية، تحتضن بضاعتها الهزيلة. ما إنْ أوقفنا سيارتنا أمام مشهدها النافر، حتى صدعت ثلاث صعقات من الرعد. قفز المتمردون من السيارة ليبركوا معاً، متحلّقين حول البضاعة، بينما جفلت المرأة العجوز إلى داخل وَهدةٍ كانت قد حفرتها في الرمل؛ في تحسّبٍ لما حدثَ بالتوِّ ؛ فقد أطلقت طائرة ميج مقاتلة، ثلاثة صواريخ، وقد تبيــَّنا ذلك من مشهد مسارٍ يتجمّع من ثلاث سُحُب، ما تزال تسبح في الجوِّ. الطائرة لم تكُن مرئية بالنسبة لنا، ولكن من المُحتَمَل، أنها قد صوّبت باتّجاه ما تبدّى لها عند التقاطها لسيارتنا.
المرأة العجوز ما تزال ترتعد من الخوف، عندما قام المتمردون بشراء السكر منها. إنها تتحدّث لغة الزغاوة فقط. طمأنها محمد بحرالدين، عبر الحديث معها بلغتهم. تقول إنها تتذكر أنه عندما كانت شابة، كان هناك زوج وزوجته من الخواجات، جاءاً وأقاما لفترة طويلة في كورنوي؛ مع الشرتاي تجاني. التفتَ محمد بحرالدين إليَّ قائلاً: " والديك".
والدي العزيز، هناك صورة لك، تسير أمام قصر الشرتاي. يبدو جليّاً أنك كنتَ ترتدي الجينز و الياقة المدورة، الزي الأقرب لموضة الستينيات. بجانب هذه التفاصيل، هناك معنى رمزي لهذه الصورة. يتّصل بتلك الأروقة البهية، مرصوفة بالطوب المحروق، تبدو على خلفية الصورة. واضح أنك كنتَ سعيداً للغاية. بدون شك، فقد كنتَ عائداً من جلسة مع الشرتاي. في السنوات التي أعقبتْ، كنتَ ما تزال، يا أبي، تذكُر المستوى المهيب والوقار القيادي لمسلكيات الزعامة في كورنوي. وقد خصَّصتَ كتاباً في إحياء ذكرى .. ( رجلٌ ذو ألمعية وقُدرة قيادية حكيمة .. كان لنا نِعم الصديق الوفي عبر أيامنا في دارفور ). جميع أفراد عائلته الذين التقيتُ بهم، يتذكـَّرون هذه الكلمات بفـَخرٍ شديد.
في مرةٍ بالفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور؛ دُعيت لتناول طعام الغداء في بيت الشرتاي آدم صبي، ابن ووريث الشرتاي التجاني. وكان آدم، يعيش في كورنوي من أيام بدء هجوم القوات الحكومية سنة 2004 على البلدة. قال لي أحدُ أشقّائه: " الجنجويد دخلوا بيتنا وأخذوا كل شيء ". ثم واصَل: " ربما أخذوا حتى الســِّكـــِّين التي أهداها أبوك لأبي عندما كان بمستشفىً في الخرطوم ".
كان يتحدث عن سكين الجيش السويسري، تلك التي أهديتها للشرتاي في سنة 1970 قُبيل وفاته بفترةٍ وجيزة. بعد خمسة و ثلاثين عاماً، ها أنذا أُجالِس أبناءه و أحفاده، حول قدحٍ كبير من لحوم الإبل. أعطَيتُ لواحدٍ منهم (عامر)، صورة لوالدته. سيدة شابة رائعــة كنتَ قد قابلتها يا أبي في 1965. هيَ الزوجة التاسعة، في ترتيب زيجات الشرتاي، وابنة واحد من شيوخ العرب.
قبل الحرب، كانت الزيجات المختلطة بين الزغاوة والعرب، من الأشياء الطبيعية، لا سيما بين عوائل الشيوخ والشراتي. وقد تمثّلت، تلك الزيجات، كوسيلة ناجعة في تفادي وتيسير حلول التنازعات القَبَليّة. بجانب عامر، كان يجلس شابٌ صغير السِّنِّ، وببشرَةٍ فاتحة. هو ابنٌ لـــ آدم صبي، أنجبه من زوجةٍ له تنتمي لقبيلة عربية (أولاد زيد)؛ وتلك قبيلةٌ تــُـــعَــدُّ من أكثر المتورطين في ميليشيات الجنجويد، مهاجَمَةً للزغاوة في منطقة كورنوي. بعد بُرهةٍ، قال لي الشاب الصغير، إنّه كثيراً ما راح عائداً إلى مدينة الجنينة في غرب دارفور، لزيارة أخواله العرب هناك ... فقال له رجلٌ كَهْلٌ مُـحتـَــــدَّاً، ونحن ما نزال جلوساً على مائدة الغداء : " أخوالك العرب، هُم أكبر الجنجويد ..". كل الحضور كانوا يعرفون، أن هذا الرجل الكهل، ينتمي لأكثر العشائر (العربية) عدواناً بين الفِرَق المتمرِّدة. فأجابه الشاب الصغير: " وأخوالك هُم أكبر تورا بورا " . فانفجر الجمع ضاحكين.
الـ(تورا بورا) اسمٌ مستعار للمتمردين، إشارة إلى سلسلة جبال أفغانية؛ حيث التجأ ابن لادن، ليتّقي القصف الأمريكي. كذلك يلوذ ثــوّار دارفور بالجبال، اختباءاً من الطائرات الحكومية؛ وبدون شك، فقد تمّ التقاط العبارة من الإعلام. بالطبع، فلم تسمع، يا أبي، هذه العبارة (تورا بورا) عندما كنت في دارفور. ولن تكون سمعتَ بكلمة (الجنجويد). رفقاء سفري، لم يكونوا سُعداء بأنّ يُطلَق على "عرب دارفور"، وبشكلٍ كُلِّي، أنّهم هُم الجنجويد. ولعلّ هذا واحد من الأسباب التي دعتهم للانضمام إلى التمرد، وذلك : " لإرسال رسالة فحواها، أن ليس كل عرب دارفور جنجويد".. هكذا يوضِّح لي عمر كـَرما. هو في السادسة والعشرين من عُمرِه، طالبٌ سابق؛ على دراية كبيرة بجرائم سرقات الإبل والاشتباكات القاتلة التي وقعت، حتى قبل الحرب الحالية. بين عشيرته والزغاوة. يــُقال إن أمه كانت تشتهر بأغاني الحماسة (حَكّامة)، تشجِّع مقاتلي العشيرة. كل ذلك لم يمنع أخته من الزواج برجلٍ من الزغاوة. " شقيقتي عندها ولد، هو معيَ الآن في حركة العدل والمساواة، فكيف لي أن أقاتل عائلتي؟"، يسألني عُمر.
نجلس تحت شجرة رقيقة الحال، بالكاد ترمي ظلاًّ كافٍ لإيوائنا. لكنّ هذا الرجل، والذي كان يتحدث لي بصوتٍ ناعم، ممتلئ قليلاً وعلى بِشرة فاتحة، في زيِّه العسكري الجديد بادياً عليه أنه لم يَخُض به معركة بعد، بدأ كأنه يتحدّث إلى العالم بأسرِه .. " والله [ يستقسم بالله العظيم] إننا ضد الذين يقولون إنّ العرب، هم مصدر كل المشاكل؛ ليس كلّنا مَنْ حرَق المنازل وقتل الناس، لكن البعض منّا غير متعلمين، لا يعون شيئاً، بالتالي فقد وجدتْ فيهم الحكومة، أنسب مَنْ يُمكِن تجنيدهم كقوى شعبية لها. الحكومة تسعى دوماً لاستغلال ضُـعفاء الناس".
ضُعفاء العرب هؤلاء، هُم الرُّحــَّل، الذين بقوا بعيدين عن المدارس والتنمية؛ لسبب ترحالهم المستمر عبر الصحارى والأدغال طلباً للمراعي؛ من شمال دارفور إلى جنوبها، كأنما عليهم أن يهيموا إلى ما لانهاية. عندما كنتَ مقيماً يا أبي، في قُرى الزغاوة، ستينيات القرن العشرين، لابد أنك التقيتَ بهم خُلسة، حيث تقول: " مجموعة من الرجال على إبلهم، يبدو عليهم أنّهم يأتون من تشاد، تقرّبنا إليهم وسعَيْنا إلى محادثتهم. إنهم يأتون من "لا مكان"، وذاهبون إلى "لا مكان"، كما أنّهم يعيشون بصورة غير مُستقرِّة في "لا مكان معلوم"، لا فائدة إذن من أي سعي لسبر أمرهم".. أؤلئك الرُّحَّل غير مرئيِّين على الدّوام، ما لم تنقدح الصراعات والتنازعات. لقد كتبتَ يا أبي: " ميدانيّاً، هناك في غالب الأمر، معارك شبه يومية؛ كانت تقوم استئثاراً للمراعى ومساقط المياه" .. لكن الزعماء التقليدين يحلّون هذه الاشتباكات الدائمة، بكل اليُسر والسهولة.
تلك الأمور، بدأت في التغيــُّر منذ الثمانينيات، وذلك عندما بدأت الأنظمة القابضة على الأمر في الخرطوم، قلِقة تميلُ لإحكام السيطرة على ما يجري في دارفور، وبأيِّ ثمن؛ فشرعتْ في تجييش الحُلفاء المُقرّبين لها؛ وهُم الناس الأكثر تهميشاً وسط المهمَّشين من الشعوب الدارفورية. كان العرب الرُّحَّل هم – مِثاليّاً - العملاء المُقرَّبون؛ حيث استطاعت الحكومة أن تستألفهم كرُصفاء هُوية عربية مشترَكة، بحسب زعومات النخبة العربية الحاكمة في الخرطوم : " في كل حينٍ تجيئنا الحكومة قائلةً لنا نحن جميعا عرب، أنتم قبائل عربية، نُريد أن نساعدكم" حسبما أخبرني عمر كـَراما.. مواصلاً بالقول : "عندما انضممت إلى حركة العدل والمساواة ، لم أشعُر مُطلقاً بأنني محسوب كــ عربي؛ بل كـــ ــدارفوري فقط" .. هل كان يقول الحقيقة .....؟ .. بالطبع، فــ تحتَ شجرة مجاورة، أرى عــبدو محمد، صبـيــَّاً عربيـَّاً، مع صـبيٍّ آخر من قبيلة البرتي - واحدة من القبائل الرئيسية غير العربية في دارفور - يبدوان كأفضل الأصدقاء؛ يتشاركا يومياً لعب الورَق، "تخميس" السجاير و قارورات الماء. يتمازحان مع بعضهما البعض، لا يفترقان إلاّ عندما يذهب أيُّ منهما لركوب السيارة المختلفة عن التي ركبها صديقه؛ إلى حيث تقلَّه في تحركاته لأداء العمل المنوط به. بعودة خاطفة إلى الوراء قليلا، كان محمد بحرالدين وبعض الزغاوة يشعرون بالضِّيق من وجود العرب بداخل جيش حركة العدل والمساواة؛ بل كثيراً ما تحدَّثوا في أوساط الزغاوة، لأجل ألاّ يحدث أيّ تفهّم للأمر.
" في البداية، كان الأمر بالغ الصعوبة، فالمُقاتلين من غير العرب، كانوا غاضبين حقّاً من وجود العرب داخل حركة العدل والمساواة. " قال لي واحدٌ من مؤسِّسي حركة العدل والمساواة. شارحاً لي الموقف، ثم واصل: " لقد استغرق الأمر منـّا قـَدراً كبيراً من الوقت، لإقناعهم بأن يتركوا الماضي بعيداً؛ فالمشكلة سوف يتمّ حلّها عندما يحارب العرب وغيرهم مع بعضهم البعض" . الآن، وعندما يوفِدُ منصور أرباب، أمين حركة العدل والمساواة لشؤون الرئاسة، جنوداً من غير العرب، إلى علي وافي، لأجل توصيل تعليمات أو رسالةٍ ما، تجدهم عل الدوام، يحملون الكلاشينكوف على أكتافهم.
منصور أرباب، هو الأمين والحارس المعروف للبوابة الرئاسية؛ لأي شخص يسعى للقاءٍ مع زعيم الحركة، ومؤسسها الدكتور خليل إبراهيم. في اليوم الثالث من إقامتي مع المتمردين، دعاني منصور، للجلوس معه في المقعد الأمامي لسيارته (البيك أب). والتي كانت ملطّخة بالطين تمويهاً. بل حتى مرايا الجوانب، كانت قد أزيلت تماماً، وذلك تفادياً لأي انعكاسات ضوئية تستدعي قذفاً من طائرات الأنتنوف الحكومية.
انطلقنا مرة أخرى للهروب من نطاق المراقبة الجوية. السماء بدتْ لنا خالية تماماً من أيِّ خطر؛ وقد انضممنا إلى قافلة (كونفوي) من نحو عشرين مركبة للمتمردين، تتبعنا ظُلَلٌ عاتية من الغُبار. واحدة من هذه السيارات المتحركة - دون استطاعة تمييزها بالتحديد- عليها الشخصُ الذي يوصف من جانب إذاعة صوت أمريكا؛ بأنه أكثر المطلوبين للقبض عليهم، من جانب حكومة السودان؛ والتي رصدت مكافأة بمائتي وخمسين ألف دولار، لمَنْ يُدلي بمعلوماتٍ تؤدي لقطع رأسه. هو الدكتور خليل إبراهيم، والذي تكلّفتُ أربعة أيامٍ، حتى أحصُل على لقاء معه، وهو رئيس حركة العدل والمساواة. هل السبب أنّ هذا مجرّد حذرٍ مُبرَّر؟ أم أنّه كقائد، يُريد إقناع زوّاره بأنّ المسؤولية المُلقاة على عاتقه جِدُّ هائلة؛ تماما كما كان عمّه السلطان المَهيب دوسة، سلطان الطينة السودانية، قد درَج على ذات الدّور. ما أن يُعلن عن وصول زائر، حتى يشرع السلطان – كعادته- في مغادرة قريته، خصَّيصاً لأجل أن يجعل زوّارِه ينتظرونه. في العام 1965، يا أبي، كان قد توجّب عليك أن تنتظر أربعة أيام حتى تنجز لقاءك مع السلطان.
السلطان دوسة، لم يكن حاكماً تقليدياً، فقد حرِص على إرسال البنات والأولاد إلى المدرسة؛ بادئاً هذا المنحى التربوي بأبنائه وبناته؛ كما راوده الطموح بفتح جامعة في منطقة "الطينة". مع ذلك فقد كانت للسلطان دوسة، شُهرته كحاكم فرد (طاغية)؛ وقد قيل لك، أنّه قد درَج على وضع مساجينه في سجون مليئة بالشَّـطَّة (الفلفل الحارق)، كما اعتاد السلطان على القول: " أنا الحكومة ". ابن أخته الدكتور خليل إبراهيم، يتمتع بنفس الشُّهرة. وهو من مواليد العام 1958 هو الآن طبيبٌ مُدرّب، وكذلك إسلاميٌّ متشدد منذ عهد الطلب الجامعي. شغل منصب وزير ومستشار للحكومة في دارفور وجنوب السودان خلال التسعينيات. يقول الدكتور، أنه خلال ذلك الوقت، تفتـّحت عيناه على الكثير: " عندما أصبحتُ مستشاراً للحكومة في جنوب السودان، وجدتُّ أنّ الناس لسيوا سواسية؛ كان هناك طوابيرٌ طويلة تتراصّ على بابي، من المعوِزين يتسوّلون الطعام والمال لضروراتهم الحياتية. في وقت لاحق، اضطُّررتُ لإنشاء منظمة لمكافحة الفقر. لقد أدركتُ أنّ متوسط العُمُر بين شعبي قصيرٌ للغاية؛ في الشمال، الخرطوم يُمكِن أن تصِل أعمار الناس لــ سبعين سنة أو أكثر، بينما في دارفور يموتون عند بلوغهم الأربعين سنة، وفي الجنوب يموتون قبل بلوغ ذلك ". لماذا يكون لأهلي متوسط عُمُر قصير؟ إننا نحتاج لحلٍّ جِذري.
ربما يكون الدكتور خليل، مُـحِـقـَّــــاً عندما يقول أنه لم يعـُد إسلامياً؛ ولكن بعض آثارِ تلك الأيّام، ما تزال باقية- إن لم تكُن في مظاهر الآيدلوجية الدينية- ربما صـَحّت في تملّكِه تحديداً ذات الحماسة الثورية. لقد استقبلني الدكتور خليل، وهو على سجّادة يتمدّد طرفها خارجاً من ظلّ شجرة منحنية، قُطِعتْ أغصانها الأدنى حتى لا تؤذي الجالسين تحتها: " أنت في المقر الرئيسي، هذا هو قصــرنا الرئاسي" قال لي ذلك مُمازحاً. وراءه، كان يقف جُندي شاب، في شكلٍ مُمَيـَّز ممتشقاً مدفع رشاش، مصوّب نحو الأرض. كان الجندي يقف بثباتٍ تام، طيلة فترة اللقاء. هذا هو حارس خليل، الشخصي. إلى جانبي كان يقف شاب آخر من الثوّار، يحضّر كاميرا صغيرة على رافعتها؛ فحواري مع د. خليل، سيتمّ تصويره، في ما يبدو، من جانب إدارةالشؤون الإعلامية بحركة العدل والمساواة.
الدكتور خليل، لم يكن مفتقراً لحلولٍ جذرية، كما كان يُسمـِّــيها، بقدرما كان يتساءل عن مستقبل مليوني مواطن نزحوا بسبب الحرب : " هل سيعودون إلى أكواخ القش...؟ تلك القابلة أن تحترق برصاصةٍ واحدة؛ لقد تدمّرت القُرى حتى أضحت رمادا. خـٌـطـَّــتنا الآن، تتمثل في بناء قـُرى بالمواد الثابتة، ليس بالحطب والقش. لقد قمنا بتصميم نموذجي لمنازل عائلية، تتكون من ثلاث غرف نوم، وغرفة معيشة، مطبخ، حمام ومراحيض. كل قرية ستكون من عشرين منزلاً. توجَد بها مدرسة ابتدائية لكلا الجنسين، عيادة طبية وملعب رياضة. إضافة للسوق، سيتوفر لكل قرية، الكهرباء والماء والغاز؛ وبعملية حسابية، وجدنا أننا نحتاج لــــ ستمائة ألف منزل. نحتاج أيضاً للطُرق المُعبّدة، والسكك الحديدية. كما يتطلب وضعنا توفير ما يزيد عن أربعمائة ألف فرصة عمل؛ وإنّ شعبي، لعاطلون عن العمل..! واجب الحكومة أن تصنع فُرَص العمل، أو تقوم بدفع إعانات البطالة، وإلاّ ماذا يأكل الناس؟ أين ينامون، كيف من المرض يتداوون، بل كيف يتعلّمون. كل هذه من مسؤوليات الحكومة. ما يجري الآن، هو أنّ الحكومة فقط تُطالِب الناس بدفع الضرائب، والانضواء في القوات المسلحة. الحكومة الحقيقية، هي التي لديها التزام برعاية مواطنيها " .
يوتوبيا (مِثالية المدينة الفاضلة) ..
الدكتور خليل، يبدو كأنما هو رجلٌ من زمنٍ آخر..! كـ ـزمن ستِّينيات القرن العشرين، حيثُ كان - في أفريقيا كما هو الحال في أوروبا – كل أمرٍ يبدو في حدود المُمكِن. فإن كنتَ قادراً على الهبوط على سطح القمر، فلماذا لا تجعل الصحراء تتفجّر مياهاً وقمحاً ..! ناهيك عن الطرق المعبدة والجامعات ..؟ إنني أعرف – يا أبي – القليل من أحلامك فيما مضى؛ بيد أنني أعي تماماً تجنّدك في حَملة استقلال دولة الجزائر؛ وأعرف كذلك، أنك أسهمتَ بعمل مشرف خلال فترتين أمضيتهما في السودان، علاوة على انضمامك لمظاهرات باريس (الثورة الطلابية الفرنسية في مواجهة سياسات ديجول) مايو 1968 إبّان تلك السنوات، كانت دارفور ممتلئة شباباً، كثيرون منهم لم يتقدّم بهم العُمر بعد؛ ولعله من العسير عليك أن تصدّق - يا والدي- أن الكثافة السكانية في دارفور، قد قفزت من حدود الواحد ونصف مليون نَسَمة في 1960 إلى ستة ملايين نَسَمة في هذه الأيام (2009). لقد حوّل كِبار السَّنِّ طموحاتهم في مستقبل مونق، إلى صِغار السِّنِّ (الشباب)؛ وقِطاع من الأخيرين، رفعوا السلاح لأجل تحقيق تلك الطموحات.
الدكتور خليل، رجلٌ حالِم. لقد حكى لي عن غارة حركة العدل والمساواة على الخرطوم، والتي كانت قبل عام واحد: " تسكنني دوماً حياتنا في هذه الصحاري، الصحراء الكُبرى، كأنما نبحِرُ في يَمٍّ وسيع. ها هنا فالطقس حار جداً، لقد كُنّا في شهر مايو؛ وعدد من الطائرات تحلِّق فوق رؤوسنا. تقصف هنا وهناك. كنا نريد الحصول على الماء من وادي الملك. لكن عرب الكبابيش المحليين منعونا الماء. فكّر بعضنا في أخذ الماء عنوة بالقوة. لكنني رفضتُ ذلك، ورأيتُ أن ندفع لهم مالاً مقابل الماء. أعادوا لنا المبلغ، في ما بعد، بل ووهبونا خروفين، قائلين لنا أنتم أناس صالحون، اذهبوا وغارموا (حاربوا) الخرطوم. في الخرطوم، كثيرين من الناس رحّبوا بنا. لم نكُن نعرفهم، كانوا مستبشرين بسعادةٍ غامرة، يصيحون: مرحبا بكم. إنّكم تستحقّون أن تحكموا هذه البلاد. لقد اقتنعتُ تماماً، يومها، أنّ الشعب يريد التغيير. كان الناس يقولون: القرود يسيطرون على الحُكم في البلاد، اسحقوا القرود. لقد كان الناس يعطوننا التفاح؛ وكانت فاكهة لم يرها كثيرون من جنودي قبل ذلك اليوم، كما أعطونا العنب والحليب، كل ذلك مجّاناً بغير فلوس.".
عيناه كانتا تسطعا خلف النظّارة المظللة، هناك مِسحَة يسوعية، تتبدّى في نبرة د. خليل وهو يُعلن: " الجميع مستعدّون للموت في الخرطوم. لأننا لا نُريد فقط القتال في المناطق النائية، عند الصحراء. نريد محاربة الحكومة في عُقر مركزها الخرطوم. جنودي كلّهم يرغبون في دخول الخرطوم. كنا نتوقع أن نستولي على السلطة هُناك، وليس التراجع إلى هُنا في دارفور؛ وفي المُنتَهى، فإننا على الأقل، قد أوصلنا رسالة واضحة إلى أهل الخرطوم: بأنه لن يمكنهم العَيش طويلاً دون أن ينتبهوا للحرب؛ أهل الخرطوم، لم يسمعوا مُطلقاً صوت الرصاص، وطالما أنه لا سلامٌ هُنا في درافور، فلن يكون هناك سلامٌ في الخرطوم. لم يكُن أحد يتوقّع أنه باستطاعتنا أن نتحرّك عسكرياً إلى الخرطوم ونقاتل من داخل المدينة؛ لقد أصبحنا الآن، الأكثر شُهرة وشعبية في البلاد عمّا مضى. من قبل هذه الغارة على الخرطوم، لم يكُن هناك العديدون من العرب بداخل حركة العدل والمساواة، أمّا الآن، في كلِّ يومٍ، فإنّهم يأتون. حرب 2009 لم تكن تشبه حروبات 2003؛ وقد بدأ الجنجويد يتلقّون خسائر فادحة.
الجنجويد كانوا اليد اليمنى لـــ عمر البشير ، والآن تحطّمتْ تلك اليد الآثمة. لن يتسنّى لها أن تدعم البشير، بعد الآن، لقد كلّفهم ذلك الدعم غالياً. أن تـُسانِد البشير، حالياً، فمعنى ذلك أن ...... " .. فجأة توقف الدكتور خليل عن حديثه جرّاء صوت انفجارات عنيفة، ثم واصل: "ما الأمر؟ (ده شــنو) صائحاً في رجالِه من حوله؛ والذين بدأوا في الهروب على كل الاتّجاهات؛ هُويْ، نصّبوا مدفع- مضاد الطائرات، رشاشات الدوشكا.. " ثم التفتَ لي قائلاً: " هذه هي طائرة ال ميج، فعندما تجيء طائرة من طراز الأنتونوف، فإنك تسمع صوتها من قبل وصولها؛ أمّا مع ال ميج، فتسمع زخّات رصاصها أوّلا. " أخذ د. خليل، قليلاً من شراب البيبسي الذي أمامه. قلتُ له وأنا مُبتسم :" إنهم يريدن قتلك أنتَ" ... " أيوة نعم، هو ذلك بالضبط ! " أجابني بزهوٍ، وهو يبتسم أيضا.
(الرجل، أكثر المطلوبين للقبض عليهم في السودان)..! إعلانٌ يمنحني انطباعاً، كأنني في سينماء حرب هوليودية، أو حوار استعراضي في محطة سي إن إن (الأمريكية) على الهواء مباشرةً من دارفور. يواصل دكتور خليل: " لهذا، وجبَ علينا تغيير المواقف حول السُلطة السياسية. لديهم جواسيس، إن قبضوا عليك، سـلّموك للحكومة." .. لم يكُن أحدٌ مِنّا – تحت الشجرة الظليلة – قد أُصيب جرّاء القصف الأخير. جنود العدل والمساواة، يستعدّون لمغادرة المكان قبل عودة الطائرات، أمّا الزعيم د. خليل، يبدو أنه لا يأبه كثيراً، يُريدنا أن نستأنف حديثنا. في لحظاتٍ معيّنة، يغمرني انطباع كأنّما الدكتور خليل، لم يكُن يخاطبني أنا بالذّات، بل كأنما يُخاطِب الرجل الذي حاول قتله قبل قليل! عُمر البشير (الرئيس السوداني): " في يومٍ قريب، سيتوسّل عمر البشير، طريقاً توصله إلى المحكمة الجنائية الدولية، ذلك أن تلك المحكمة لا تحكُم بقطع الرأس؛ أمّا هُنا، فإذا قبض جنودي عليه، فلا فُرصة حياة بالنسبة له." ..
بينما كان الدكتور خليل يتحدّث، بدا واضحاً أن رجال استخباراته قد نفدَ صبرهم. هبّ الدكتور خليل، واقفاً. البساط الذي كـُنــَّا نجلس عليه، قبل قليل، تمّ طيّه بسرعة ووضِع على السيارة الــ بك/أب. صعد الزعيم أخيراً، على مقعد الراكب بجوار السائق. سيارات أخرى انضمّت للركب. لتنطلق قافلة السيارات في خطّ سيرٍ عمودي متضخِّم. إلى ناحية المناطق الداخلية في دارفور. مخلــــّـــفةً ورائها سُحباً من الغُبار.
بالنسبة لي، فقد حان الوقت للتوجه في الاتجاه المعاكس، نحو الحدود التشادية، شرعتُ في وداعي للرجال الذين قضيتُ معهم أربعة أيام. قال لي محمد بحرالدين: " لقد وجدتني مستجدّاً في حركة العدل والمساواة، ولم يكن في إمكاني أن أقدّم لك الترحيب الملائم، لكن! عندما تعود إلينا مُستقبلاً، فسيكون لي ساعتها، سيارتي الخاصة " . الوِجهة التالية لتحركات حركة العدل والمساواة، كانت موطن محمد بحرالدين " أمبّورو". عند ذاك الصباح، كان محمد بحرالدين، يشرح لرفاقه، ومن خلال الرسم على الرمال؛ كيف سيقومون بتحرير موطنه. غداً ستذيعُ محطة بي بي سي : غزاة يستولون على قاعدة للجيش السوداني.
واقع الأمر، فقد كان القتال في "أمبورو" أشدّ عُنفاً منه في "كورنوي". لقد اضطــُّر الثـــُّوار للانسحاب عند الغسق، بعد ثلاث ساعات من العِراك حامي الوطيس. كانت الخسائر فادحة: أكثر من ثمانين قتيلاً، ومائتي جريح. بعد مرور شهرٍ كامل، وقد عـُدتُّ إلى فرنسا، تلقَّيتُ رسالة بالبريد الالكتروني من أحد الأصدقاء. كان يعمل في منظمة غير حكومية في "بـَهــَّـــاي" بتشاد: " قــُتــِلَ محمد بحرالدين .. في الهجوم على "أمـبّورو"، القوات الحكومية دمّرتْ سيارة علي وافي، وَ محمد بحرالدين، تعرّض لضربٍ متعدِّد ولعُدّة مرّات. حزينٌ أنا يا – والدي- أن أُنهي إليك هذه الأخبار المُحزِنة، فقد كان محمد بحرالدين، رجلٌ طيِّب القلب، لطيف المعشَر، وإن كان من عَــزاء، فإنه قد واجه مصيره وهو يدافع عن موطنه "أمبّورو".
خاتمة- ديسمبر 2013 ..
في ديسمبر من العام 2011، قــُــتِل الدكتور خليل إبراهيم، خلال غارة قصفية، تشبه كثيراً تلك الغارة التي وصفتُها لك آنفاً. حيث المكان بعيد عن دارفور، بمناطق كردفان؛ كذلك كان أوانها متزامناً مع بدء الجيش الشعبي لتحرير السودان، استئناف ما بدأه من ثورات تحريرية ضد الخرطوم، طيلة ثلاثين عاماً من الكفاح، تكللت ثمراتها بالاستقلال. حركة العدل والمساواة، تمكــَّنت من إنقاذ جثمان زعيمها د. خليل إبراهيم، كما عمِلتْ على إنشاء تحالف مع ثوّار كردفان؛ حتى تواصل في استراتيجيتها بنقل الحرب قريباً من الخرطوم.
All photographs by the author.