حُروب
سيبدو الافتراضُ مجنوناً، ولكن ألا تضمرُ الحروب حنيناً للعنصرِ، إلى الوحدة والنقاء والعزلة؟ أليسَ قتلُ الآخرين «تصفيةً !؟» الحروبُ هي احتكاكٌ ميكانيكي بين جموع المتحاربين لترجمة رغبةِ المجموع في أن يصبح مفرداً، بل هي تطبيق عدوانيّ لشوقٍ غريزيّ إلى عالم فردوسي مصفى، حيث السكّانُ أشباهُ العنصر، والهدوءُ صدى الوحدة. من مناَ يتذكَر وجوهَ القتلى في الإبادات الجماعيَة، في «حلبجة » و «كرم الزيتون » و «صبرا وشاتيلا »، حيث تتشابكُ أيادي المئات والألوف في قفزةٍ مُشتركة من ضفَةٍ إلى ضفَة. خفقُ القلوب والأنفاس الموحَدةُ ربّما تلغيان مأساة التلاشي الفردي. القاتل في المجازر الجماعية يخسر لذة قتل كلِ فردٍ على حدة. المئاتُ في المجازر الجماعيَة تضمحلُ أسماؤُهم، في حين أنَ قتيلاً واحداً يصبحُ نجماً، الوحدةُ تدللُ ضحاياها.ّ
«مديحُ «الخوف
لم احتقارُ «الخوف»؟ الكتابة التمجيديَة الحماسيَة عن «البطولة» و «التضحيات» و «الدماء» هي شحنٌ للّغة بمضامين رمزيَة ذكوريَة عُنفيَة، النصُ المتخَم بالبطولة رئةٌ مختنقةٌ، البطولة المنجزةُ تقتل مسافةَ الشوق بين القارئ والكاتب، كشخصين يتكلَمان وأفواههما متلاصقة، لغةٌ تتحدَثُ عن القتل بفرحٍ واستسهال ستبرِرُ القتل لاحقاً، أنْسَنةُ الانفعالات وإخراجها من حيّز الثابت المطلق إلى سياق التاريخ ضروريّ للحدِ من توالد ديكتاتوريات جديدة.ّ
الورقةُ البيضَاء كرسيُ اعتراف الكاتب، كما البحرُ للعاشق، والكاهِنُ للمذنِب، الكتابةُ هنا كالنسيان أمومة كبرى، لم الادِعاءُ إذاً ؟!ّ
بعد تجربتي القصيرة غير الكريمة في فروع الأمن، تضاعفَ «حاجز الخوف » عندي وازدادَ سماكةً، من حينها أخافُ فتحَ الأبواب، أخافُ الطارق دوماً، وأعيشُ دقائقَ صعبة تتلفُ فيها أعصابي عند فتح كلّ باب، أخاف رجال الأمن وشرطة المرور والعساكر والأشخاص ذوي الذقون الطويلة والرؤوس الحليقة، أرى السجون أمكنةً للإذلال، وليستَ منصَات بطولة. نحن بحاجة إلى كتابات مليئة بالهزيمة والتلاشي.
هِجرة
الحريَة في استخدام «الحريَة » ضدّك، حريتهم تقييدٌ لك، المعاناة الكبرى للهارب من الاستبداد والباحث عن الحريَة في بلاد الحريَة هي الحريَة!ّّ
ذاكرة القمامة
هنا في ألمانيا كلُ شيءٍ يُعاد تصنيعه، الملعقة التي تأكلُ بها ربَما كانت سلاحاً في يد مقاتل في سوريا، أو حلقاً في أذن مراهق، أو حافراً لحصانٍ في الدنمارك.
بعدَ موتك أنتَ في أيَةِ صورةٍ سيؤولُ تحوُلك؟ّّ
من عدم الحريَّة إلى حريَّة العدم
مفتاحٌ صغيرٌ فتحَ باب السجن الكبير، المسافة الزمنيَة بين مَهجع السجناء و «حيّ القصور »، كالغَبش الفاصل بين اليقظة والنوم، ثوانٍ قليلة تفصل مكاناً يموت الناس فيه ببطءٍ وصمت، عن مكانٍ يضجُ بالحياة الفارهة. السيارات مُصطفَةٌ على حوافّ الطريق مثل سلاحفَ نائمة. نظرتُ إلى السماء، شعرُت بدوارٍ لاذِع، أدهشني ارتفاعُ الأشياء عن الأرض. لا أبعادَ في السجن.
اكتشفتُ أثناءَ المشي أنَ المسافة بين فخذي قد اتَسعت. سألتُ فتاةً مارقةً في الشارع عن الوقت، خافت وابتعدت كأنَا رأت كائِناً خُرافيًّا، تفرَستُ وجهي في مرآة سيَارة واقفة. أخفْتُني، أشبهُ بعجوز يمشي جيئةً وذهاباً ُ تضراً تحت مصباحٍ يمعِن في التوهُج. مّن ارتدادٌ تامٌ إلى حالة الهيولى الأولى، أنفاسي سريعة ومتقطعة، صوتُ صرير عميق أسمعهُ من صدري، كالصوت الصادر من قطعة حديدٍ يحاول حدَادٌ بعبثٍ أن يكْشُط الصدأ عنها، سيَارات الأجرة ترفضُ الوقوف، بعد أكثر من نصف ساعة، وقفت إحداهنَ، قلت للسائق أن يأخذني إلى «ساحة الميسات »، الدم المتخثِرُ على ظهرِ يدي اليمنى مثل بحيرةٍ من صقيعٍ أحمر، سألني إن كنت في السجن، أجبته بنعم، مرَت فترة صمتٍ طويلة، نظرتُ 59 إلى ملامحه المتعبة، كانت الدمعة مُستقرَة على خدّه الأيمن، مسارُ الدمعة على وجهه ترك انطباعاً في داخلي، كالأخدود الغائر الذي تتركه مياه النهر في صلب الأرض. إنَها هزيمة.ّ
على عكس الدخول، لا يخرجُ المرءُ من السجن دفعةً واحدة، الإفراج النهائي ُ رِجُ أقلَ كميَة منك. أوَل ليلةٍ في البيت لم أتجرَأْ يّّّّ على التمدُد الكامل على السرير، ولم أبقَ في «التواليت » أكثر من 30 ثانية، ثلاثُ ساعات وأنا أشاهدُ مباريات كرة قدم خليجيَة، في الساعة الرابعة صباحاً، كنتُ على وشك أن أجهش بالبكاء وأقول لهم أن يعيدوني إلى السجن، لم أعد أصلُح سوى أن أكونَ سجيناً.
عبارات علِقتْ في ذهني كانت مكتوبةً
«على حائط المنفردةِ رقم 1 في فرع «الخطيب
- ثلاثون يوماً بسبب «لايك » لقناة الجزيرة.
- اليوم عرفوا أهلي إني على قيد الحياة، أجهشَ والدي في البكاء بعد الاتصال به من موبايل شرطي في المحكمة، قال لي والدي أنَم قد نصبوا خيمة عزاءٍ رسميَة لي ظنًّا منهم أنني قد استشهدت، أنا حيٌ في السجن وميِت خارج السجن.ّّ
- السفاح أبو الموت 2011 - 7- 17 .
- اسمع الصمت جيّداً. أبو خالد الساعور.
- دعسُ الأزهارِ لن يؤخِر مجيء الربيع. أبو خالد الساعور.ّ
- مررتُ من هنا.
- إذا كنت تريد أن تكتب على الحائط، هنالكَ مسمار تحت «الكرتونة » في الزاوية اليمني، أعدهُ إلى مكانه بعد الانتهاء من الكتابة.
التوافق
محال اتّفاقُ الجميع، لا يوجدُ في العالم شيءٌ ليس نقيضاً لشيءٍ آخر، العدم هو نقطة الالتقاء الوحيدة في الوجود.
غرف المنازل
في كلِ التاريخ المكتوب لم أرَ حدثاً يضاهي الأحداث العظيمة التي تجري في غرف المنازل المغلقة، المؤرِخون لا يعلمون أن تاريخَ العالم كامنٌ في غرفِ المَنازل.
«بيانات»
على التغيير أن يتجاوزَ الجهاز السياسي الحاكم إلى بُنية اللّغة، علينا أن نخلِص اللغة من التعابير العسكرية، أيّةُ لغةٍ طناَنة و «جماهيريَة» ستنتجُ نظاماً سلطويًّا جديداً.
هاجِس القاتل
ثمة قلقٌ عصابيٌ يعاني منهُ المجرمُ في الداخل، كلُ خطأ هو خطأٌ صغيرٌ لا يُمحى إلا بارتكاب خطأ أكبر، وهكذا إلا مالا نهاية.
دخَّان الكلمات
صندوقٌ زجاجيُ كبيرٌ مليءٌ بعددٍ لا هائي من قصاصات ورقٍ صغيرة، اسحبْ كمشةً وراصف الكلمات، ستكون قصَة حياتك (لاحظ أن تلك الكلمات هي الكلمات التي تكررها دوماً)، حذار من حرق الصندوق، دخان هذا العدد اللا هائي سيخنق العالم، نسيُقتَل الناس بكلماتهم.
رائحة الاستبداد
ثُلَةٌ من العناصر المخمورة اقتحمَت المهجعَ مساءً في فرع الأمن العسكري بدمشق، أخرجَ أحد العناصر ورقةً من جيبه، وحدَد مجموعةً من الأسماء، وطلبَ منهم تحضير طقوس آخر العمر، لأن حكم الإعدام قد تمَ إقراره، همهمةٌ مذعورةٌ عمَت المهجع، وضجيجٌ قلقٌ انتشرَ بين السجناء، قام المطلوبون بالوضوء والصلاة والدّعاء، أحدهم تكوَر في زاويةٍ ما وأجهش في البكاء، وآخر كان يطلب بالضبط أن يقولوا لابنه الكبير أن يعتني بوالدته جيداً.
تم اقتيادُ السجناء إلى ساحة السجن الخارجيَة، وجوههم ملتصقةٌ بالحائط، لقَم العناصر بنادق الكلاشينكوف وأطلقوا الرصاص في الهواء، لقد كان أمراً في غاية التسلية بالنسبة لهم. (أحد القتلى الأحياء كانت تباغته نوبةُ صرعٍ انفجاريَة في كلّ مرَةٍ يسمع فيها صوت تلقيمة البارودة).
في لحظات التوتُر الشديد والا نهيار النفسي، ترتخي كل المصرات العضليَة في الجسم بما فيها المصرَات الشرجيَة، أحدُ الناجين من المجزرة الكاذبة، أحد القتلى الأحياء ارتخت كلّ مصرَاته لحظة إطلاق النار.
رائحة الفودكا المنبعثة من العناصر المخمورة تجذِرُ «علمانيَة» النظام في مواجهة «الإسلاميين المتشددين»، رائحةُ الكحول تعني بالضبط رائحة السّلطة والاستبداد، في تلك الليلة بالذات أزاحت رائحة خَراء السجين رائحة فودكا عنصر الأمن.
المكانُ في السّجن
«البلاطةُ » هي وحدةٌ لقياسِ القِدم في السجن، كُلَما كانَ لكَ «بلاطاتٌ » أكَثر كنتَ أكثرَ عراقة، الأقدمُ هو الأكثرُ راحةً لأنه يملك مكاناً أوسع. الأكثر راحةً هو الأكثر تعاسة، البلاطةُ هي وحدةٌ لقياس الألم. المكانُ الوحيد الذي يُقاس فيه عُمقُ الزّمان باتّساع المكان هو السّجن، أحد السُجناء القدماء اعترف لي بأنَه عندما يبني بيته سيجعل أرضيَته قطعةً واحدةً مُتَّصلة، لن يسمَح لتقاسيم البلاط أن تظهر، انتقاماً من ذاكِرته.
تلاشي البعد
أرضيَةُ ممرِ السجن حائطٌ نائم، والحفرُ كانَت نوافذ. لم أكن أعرفُ بالضبط أنَ تلك الحفر كانت قُبوراً على شكل منفردات، كالانطباعات الغائرة التي تحفرها حبوبُ الشباب في وجوهِ المراهقين. في الطريق من «المهجع الجماعي » إلى غرفَةِ التحقيق في «فرع الخطيب » بدمشق، كانَ بياضُ بؤبؤِ العين يلمعُ في قتامةِ ظلام تلك الحفر، تأكَدت وقتها أنَ فيها بَشراً!ّّ
حجمُ المنفردِة-القبر مُصمَم بدقَةٍ وعناية، طولها لا يسمحُ بالتمدُد الكامل، وعرضُها يعيقُ التكوَر الجنيني، حيرةٌ برزخيَة بين الراحة والتعب، حتى التعب المطلقُ غير مسموحٍ به لأنَ الألم النهائي الأقصى تتبعهُ راحةٌ جزئيَة، كانت تلك الحفرُ أكبرَ انتهاكٍ لكرامةِ القبور.
أحدُ السجناء من «دوما » تمَ تحويله من تلك المنفردة إلى المهجع الجماعي بعد أن قضى فيها ستَة أشهرٍ، عينهُ تخافُ الضوء وجسدهُ نحيل، كلامه ثقيلٌ لأنَ لسانه نسي المواضع الفمويَة الضامنة للتصويت اللفظي الصحيح، النواتئ العظميَة نافرةٌ من جسدهِ كأنَا رؤوسُ كائناتٍ هاربةٌ من الأعَماق.ّ
المصافحَةُ تكلّفه إحراجاً اجتماعيًّا وجُهداً عقليًّا حادًّا، يراقبُ اقتحامَ يده فراغَ الفضاء، رجفانٌ ضيِقُ الاتّساع كتردُدِ البوصلةِ قُبيل اختيارِ الجهة، تمرُ يدهُ بالقرب من يدِ الآخر، فشلٌ فيزيائيٌ ذريع، يحاولُ مراتٍ عديدةً ويفشلْ، يقول بينه وبين نفسه: «لعمى ما عاد زبطت »، فقدَ القدرةَ على تقديرِ المسافات وعُمْقِ الأمور وسماكةِ الأشياء، كنتُ أراقبه كيفَ يراقب نفسه، وكيف يعاني من «انعدامِ البعد»، من «خفته الثقيلة التي لا تحتمل »، من حواسّه التي لم تعد حواسًّا.