قد يكون – عند دخولك الحريص المتعثر – نائماً أو في جولة بالمدينة فلا يتمكن من إلـقـاء قصته على مسامعك بصوتٍ عالٍ يستخدمه العميان عادةً لكي لا تخونهم الذاكرة. سيكون عليك حينها أن تلتقط المخطوط، فلا يوجد سواه بالشقة، حيث قطع كاتب القصص الضرير الأميال وأتى خصيصاً لإتمامه هنا، في المدينة التي يتذكرها بشكلٍ خاص منذ طفولته ويحتفظ لنفسه منها بصورةٍ مهترئة وهو يمتطي جملاً هائلاً مرتدياً الأسمال العربية تحت سفح الهرم.
لن تبذل جهداً في التقاط المخطوط من أقرب ركن بالمنزل، فالكتب المكتظة بالمكتبة ليست إلا نسخ لا نهائية منه، وتلك الموزعة بإهمال على كل الجوانب هي أيضاً نسخ منه، لأنه، كما أخبرك، يحب أن يمد كفه الناحلة في أي لحظة وباتجاه أي مكان ليجده في يده. ستبدأ عاجزاً في محاولة القراءة، وسيمر وقتٌ طويل قبل أن تجد السطور تضيء أمام عينيك والصفحات تدار بنهم.
ستـتـكرر زياراتـُـك، وفي كل مرة ستـتعثر من جديد في قطع الأثاث التي خِلتَ أنك صرت تستطيع التحرك بينها بخفة في العتمة، وأنت تكتشف كيف غيَّر _ بعد آخر زيارة – مواضعها، وكيف بدَّل من وظائف الغرف لتجد نفسك تتبول في غرفة نومه، أو تتأمل المدينة من نافذة المرحاض، وسيكون عليك في كل مرة أن تقذف خلف ظهرك ما ألفته و تبدأ التعرف على الشقة، والساكن، والزائر الاستثنائي من جديد، بينما تحس في كل مرةٍ تغادر فيها البناية بالأشياء وقد ازداد اهتزازها وانسحابها أمام عينيك عن اليوم السابق، وخفتت إضاءتـُها، لتصدق أن توجساتك التي كنت تعلنها كرتوش ضرورية للكاتب بدأت تتحول لواقعٍ مُعلن. بينما تنفض ذراعك بعنف عن ذراعي رافضاً أن أوجِّه خطواتك وتصر أن تتحرك وحدك بذراعين مشهرتين للأمام تفتشان في الهواء القريب.
مثل جميع الطاعنين في السن من ذوي القامات الضئيلة والأشباح الشاذة، سيكون عليه أن يستعين بك في طقوس جنونه، لنقوم بدور المتفرجين بينما يرقص في هيستريا مع الدراويش بقلنسوة طويلة على الرأس وأسمالٍ واسعة كفساتين النساء وفي يده ذلك الدُف الضخم. تخرج النيران من عينيه الميـتـتـين وتتراقص الفراشاتُ منطلقةً من بين شفتيه الرفيعتين الحادتين المغلقتين اللتين تعلوهما خطوط العمر. يجلس خاشعاً في المعبد البوذي ويتحرك منبهراً غير مصدق ببيت" كفافيس". يبكي في الأديرة الصحراوية ويغمر النور وجهه في مساجد الأولياء، ثم يبقينا بينما يقرفص في دائرة محدقاً في النار كأنما يستجدي رجوع نور عينيه أو يرثي زواله.. ويجعلنا محط أنظار محلولي الشَعر من الوثنيين بينما يمرر أنفه في ثنيات الحجر. يهزم لاعبي الثلاث ورقات تباعاً حتى ينتهي وقد كوَّم ملابسهم الرثة على أذرعنا وتركَهم لعريهم وخسارتهم. تـُلتـَقَـط له صورة حديثة على جملٍ عجوز تحت سفح الهرم، بينما علينا أن نصدق أنه نفس الحيوان القديم وأن صاحبه الأسود العجوز ذا الفم الخالي من الأسنان هو ذات الطفل الذي ظهر جانب وجهه الذي دسه بفضول قبل ضغط الزر بلحظة ليضمن لنفسه مكاناً في الصورة القديمة المنسية .كل هذا الجنون كان علينا أن نعيشه بابتساماتٍ مغتصبة بينما يتناول قهوته في مقهى ضيق منزوٍ ونرجيلته في مكانٍ ضخمٍ مستوحش يشبه واحداً من قصور الحكايات، وفي نهاية كل مرة كان يؤكد عليك ألا تنقطع عن الزيارة، بينما تؤكد له في خجل المعتذر أنك أوشكت على الانتهاء من المخطوط، دون أن تخبره بمتاعب عينيك المتزايدة التي تجعلك في كل مرة تقرأ صفحاتٍ أقل من سابقتها، ولا ينسى أن يمنحني ابتسامة رسمية لا تخلو من شغف بينما يسألني عن الكتابة فأؤكد له أن ليس لي بها علاقة من قريبٍ أو بعيد.
بهرك المخطوط، وحدثتني ألف ألف مرة عنه حتى مللت وحتى بدأت أحس بنور عيني ينسحب مني مع كل إشارة منك له، ثم فوجئت بأنك تحفظه عن ظهر قلب مندهشاً كيف تمكنتَ من استظهار كل تلك الصفحات التي لم يُسمح لك بقراءتها سوى مرةٍ واحدة في ظل عتمةٍ محكمة وتشوشٍ غير محتمل؟
لا زلت أعجز عن تخيل مشهده وهو جالس إلى مكتبه وأنت في الكرسي المقابل، يسألك بهدوء الأب وثقته عن رأيك بالمخطوط، فتقرأه كاملاً من الذاكرة بصوتٍ عالٍ قبل أن تعلن انبهاراً صادقاً تداخلت فيه الكلمات وتشوشت وتلعثمت، ليفتر ثغره عن ابتسامةٍ مطمئنة مرعبة، وهو يلتقط نسخة من المخطوط بدت كأنها قفزت باتجاه كفه بمجرد أن مدّ يده – واحدة من أكداس المخطوطات الموزعة في كل مكان من حوله، حتى في الهواء كان بعضها يسبح – وضغط بإصبعه على زرٍ سري ليغمر الضوءُ الغرفة والشقة كلها لأول مرة. توهجت الثريات واندلع اللهب من فوهات الشمعدانات واخترق ضوء النهار الشقوق بين القضبان الحديدية ليتجول حراً داخل المكان. مهرجانٌ مبهر من الأضواء يعشي الأبصار لم تر مثله من قبل، حتى أنك أغمضت عينيك الكليلتين فجأة، وظللت على هذا لفترةٍ طويلة، وحتى عندما بدأتَ تألف المفاجأة و تتعود الضوء .. ظلت عيناك نصف مغمضتين كأنك تحدق في ملايين الشموس.. ثم بدأ يدير الصفحات في يديه بهدوء، قبل أن يمد لك ذراعه بالمخطوط لـتـتأمله لأول مرة في الضوء، وتتجول عبثاً بين آلاف الصفحات البيضاء وتعود للغلاف المقوى الأبيض وقد صرت على شفا الجنون، وأنت تلتقط نسخةً تلو نسخة دون أن تعثر على شيء سوى آلاف أخرى من الصفحات البيضاء، بينما ضحكته الوحشية تتصاعد تتكاثر تلفك، لتكتشف ــ لأول مرة ــ عمق الكهفين الغائرين الممتدين في وجهه وحياتهما الخاصة إذ يضيقان يتسعان يقصران فجأة يتطاولان للداخل.
لا زلت عبثاً أحاول تخيل تلك اللحظة، بينما أشدد من قبضتي على ذراعك وأنت تتعثر كطــفـلٍ حرون محاولاً الإفلات مني فيما نعبر أمام البناية المسوَّرة ذات اليافطة المكتظة ببياناتها كأثـر تاريخي محظور على الرواد قبل عامٍ آخر على الأقل من أعمال الترميم، والتي ذهبتَ إليها مراراً باعتبارها المكان الذي يحيا فيه.
لا زلت أحاول إقناع نفسي أن هذه العتمة بامتداد ناظري ليست سوى مأزق مؤقت وهي تتسع وتستوحش دون أن أملك حيالها شيئاً، في حين أجاهد لإخفاء السؤال الشرس بينما أتأكد أن جسدك لا يزال تحت سطوة قبضتي: لماذا ظللتَ طوال ساعةٍ كاملة تغرس أصابعك في عينيَّ بالغاً أقصى أعماقهما.. ولماذا لم أتألم أنا للحظة، وأنا أحس بملامحك تغادر، ببطء، حيزَ مشاهدتي؟