سعال جدتي فاطمة / صرّة الميراث

جمال سعيد

Illustration by Lananh Chu

1

حين عدنا إلى بيتنا في مخيم اليرموك، في صيف عام 2020 لم نجد في البيت قطعة أثاث واحدة ، كانت أمي تبكي، وذكرتنا بكل قطع الأثاث، وبأنها باعت حلق أذنيها لشراء الصوفا التي تحبها. وعدّد أبي بعض المسروقات وهو يتحدث مع عمي الذي لجأ إلى الأردن:"لقد سرقوا كل شئ. حتى باب البيت وشبابيكه،  سحبوا أسلاك الكهرباء من قلب الجدران يا رجل،  سرقوا خزان الماء والحنفيات .. كل شئ، كل شئ يا أخي". بدا لي البيت عارياً ومنتهكاً ومغتصباً. حدثتني جدتي فاطمة عن بيت أهلها الذي انتهك في الطنطورة في فلسطين عام 1948 ، وقالت:" لم يكن بامكان البيت أن يدافع عنا. لكنه لا يزال يبكي علينا". وحين ضحكتُ قالتْ زاجرة:"لا تضحكي. للبيوت قلوب تحنّ وتبكي".



2

ماتت جدتي فاطمة في حضني في كانون الأول عام 2012 على سجادة جامع العمري في بلدة قدسيا. ماتت وهي ترتدي الفستان الرملي  الذي تحبه. هي التي أطلقت عليه هذه التسمية لأنّه بلون الرمال.  وهو من الأشياء القليلة التي حملتها معها أثناء نزوحنا من مخيم اليرموك. قبل موتها بساعات ابتسمت وكررت عبارتها التي تطريني  بها: "أنت بكر البكر" معتبرةً أن هذه الواقعة  تمنحني مكانة رفيعة بين أحفادها. ابتسامة جدتي شديدة العذوبة تشعر أن كل ملامحها وحتى فستانها يبتسم. قلت لجدتي أنني لم أختر أن أكون المولود الأول ولا فضل لي بذلك، قطّبت حاجبيها وقالت مشيرة إلى أصيص ورد حملته إحدى النازحات معها ووضعته في مكان قريب من باب الجامع:"وهل اختارت تلك الوردة جمالها" وبعد أن صمتتْ برهة أضافت بابتسامتها الأخاذة:" وهل اختارت غزلان رنتيس جمال عينيها". ثم غمزت بعينها، لأفهم أنها تقصد التغزل بعيني اللتين شبهتهما مراراً بعيني غزلان رنتيس في فلسطين. ثم داهمتها نوبة سعال، فسارعتُ إلى مد المحارم الورقية إليها. كانت علبة المحارم الورقية من الأشياء القليلة التي حملتها معي أثناء نزوحي، وقد حملتها لأني مسكونة بحاجات جدتي.



3


خرجنا من المخيم ماشين على أقدامنا ضمن زحام بشري، كانت عمتي تتمتم :" هذه  هي المرة الخامسة التي أنزح فيها". سألني أخي حكيم، ابن السابعة،  وهو يشد وجهه صوبي ما استطاع: "وأنتِ كم مرة نزحتِ يا مريم؟" نظرت إلى حكيم، وقلت محاولة أن أخفي ما استطعت الحزن الذي يحتلني:  "أنا مثلك، هذا هو نزوحي الأول من البيت الذي ولدت فيه". سأل حكيم :"كم مرة يجب على الانسان أن ينزح في حياته؟". سألته:"لماذا تسأل؟" قال بهدوء وجدية:"لأعرف كم نزوحاً تبقى لي" عانقته جدتي في وسط الطريق المحتشدة وقالت:"لا أحد يعرف إلا الله". كان حكيم، مثل أبي الذي يقودنا ، يبدو هائماً على وجهه. وليواكب مشينا كان يهرول، وحين تعب طلب منّا أن نمشي ببطء، فاستجبنا جميعاً. كانت عمتي تتمتم وتقول أشياء لا نفهمها، ولم يكن ضرورياً أن نفهمها فهي لم تكن تخاطب أياً منا، كانت تمسح دموعها بكم معطفها البني وتقول للهواء الذي يبدو مثقلاً بأحزاننا شيئاً ما.  



4

 في المخيم كنت أمضي بعض الوقت في كل يوم للاهتمام بنظافة غرفة جدتي ومراقبة ما ينقصها وعلى نحو خاص المحارم الورقية. جدتي مفتونة بالنظافة، ولكنها  تعاني سعالاً حاداً مزمناً. في السنة الأخيرة وقبل نزوحنا إلى جامع العمري  تعودتُ على عبارتها بعد كل نوبة سعال حادة:" هذه المرة سأموت، سأموت حقاً". وتعودتُ أيضاً على رؤية دموع أمي. كلما رمت شفتا  الجدة نبوءة الموت في هواء غرفتها. سمعت أمي  مراراَ ترجو جدتي  أن لا تذكر اسم الموت، الذي يأتي دون ذِكر أو استدعاء. حين سألتُ أمي : "ألم تصبح عبارة جدتي المتكررة أليفة وعادية يا أمي؟" دمعت عيناها أيضاً وقالت لي:"الموت يحد ماضينا وحاضرنا من كل الجهات، الموت بشع، ولا أحب أن يذكر اسمه أمامي". تبتسم جدتي عندما تسمع عبارات أمي وتغطي ابتسامتها بيدها. وتهمس لي:"أمك رقيقة للغاية ولكنها تتفلسف " 
قال أبي مرة:" سعال جدتي حير الأطباء، وحيرنا أيضاً. قال الدكتور أحمد ، المشهود له بالمهارة:" الله وحده يعرف أي نوع من التحسس يسبب هذا السعال". والحق أن أبي أخذ جدتي خلسة، لكي لا يزعل الدكتور أحمد،  ليراها أطباء آخرون ولكنهم احتاروا في أمر نوبات سعالها. جدتي تقول لي أنها حبست أنفاسها وسعالها في مخبئها أثناء مجزرة الطنطورة في فلسطين. قالت جدتي:"كنت صغيرة،  حبست سعالي حين كنت أركض إلى جوار أمي نحو قرية االفراديس على سفح جبل الكرمل، رأيتهم كيف ادخلوا الرجال في البراميل، الرجال الذين أعرفهم" تتنهد وتنظر إلى النافذة وكأن عيونها تخترق زجاج النافذة وثقل تراكم الأزمنة: "في ذلك اليوم كان الحر قد بدأ وكانت الحنطة قد أصبحت جاهزة للحصاد، لم يكن قد مضى سوى أسابيع على تأسيس إسرائيل عندما قصف الجيش الاسرائيلي الوليد  قريتنا وداهموها بالأسلحة، كانو يسمونهم لواء الإسكندروني . ثم أطلقوا النار على البراميل التي أجبروا الرجال على الدخول إليها ،سمعت أصوات الرجال الحبيسة ورأيت تدفق الدم من الثقوب التي خلفها الرصاص في أجساد البراميل في ذلك الصيف، يقولون أنهم أجبروا أهلنا على حفر خنادق ثم دفنوهم فيها. يقول ابني زهدي أن إسرائيل عبدت الأرض فوق الموتى وحولتها إلى موقف للسيارات ". تبكي أمي. أمي تبكي إذا كسر الهواء غصناً. وحكايات جدتي مترعة بقصص الموت والنزوح والفقر والاحتيال على قسوة الظروف لاستمرار العيش. تقول جدتي لي مبتسمة:"أمك تبكي وكأن الماضي يعيش معنا في الصالون، علينا أن نفكر في يومنا وغدنا، ما نفع البكاء" وتقول أمي:"جدتك قوية، وقادرة على السخرية من كل شيء حتى من الموت".
جربت جدتي كل أنواع الشراب المخصص للسعال وكل أنواع الأعشاب التي نصحنا بها العطارون. غلينا لها زعتر وزنجبيل، وحين نزحت عمتي من مخيم نهر البارد قرب طرابلس في لبنان، وجاءت إلى بيتنا أضافت علاجاً جديداً لجدتي، وصارت تدهن صدر الجدة بزيت حبة البركة وتسقيها أحياناً ملعقة صغيرة من الزيت. كانت جدتي تشرب الزيت وتقول أن السعال أسهل من تناول هذا الشراب. لم أجد الأمر كذلك عندما عالجتني عمتي وسقتني ملعقة منه. طعمه ليس كريهاً إلى الحد الذي ذكرته الجدة. لعلها تمزح أو تبالغ.  نزحت عمتي فتحية من مخيم نهر البارد عام 2007 أثناء الحرب بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام، استقبلها أبي في بيتنا في مخيم اليرموك. تتحدث عمتي عن الأهوال في مخيم نهر البارد حيث فقدت أثناء قصف المخيم وحيدها ، أمي تبكي أيضاً. عمتي تقول أن دموعها نشفت وأنها بكيت عن كل أرامل وثكالى الأرض ثم تضحك وتنخرط في نوبة بكاء جديدة. زوج عمتي مات أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، كان يبيع عرانيس درة مشوية عندما أنهت حياته رصاصة طائشة، عمتي تقول إنها لم تكن طائشة :" نحن الفلسطينيين لانموت برصاص طائش بل برصاص مقصود". أحبت أمي عمتي ، وقدمت جدتي تنازلاً بقبول عمتي في غرفتها. غرفة جدتي صغيرة وسريرها مفرد ، ولا يوجد مكان لسرير آخر إلا  إذا أخرجنا الطاولة من غرفة الجدة. قالت عمتي أنها ستنام في غرفة المعيشة على الصوفا الحديدية ولكن جدتي أصرت أن تنام العمة في غرفتها وأن تستبدل الطاولة الكبيرة بتربيزة صغيرة بحيث تتسع الغرفة لفراش للعمة. اشترى أبى صوفا مستعملة قابلة لأن تفرد وتتحول إلى سرير . وصارت الغرفة لنوم لجدتي وعمتي. وبقيتُ من رواد الغرفة . ربما لأني أستمتع بحب جدتي لي.



5

في 17 كانون الأول عام 2012 قرر أبي أن نخرج من مخيم اليرموك، ولم يعترض أحد منا، قالت عمتي: الموت يلاحقنا في كل مكان. كان الأفضل أن نموت في فلسطين، قالت جدتي الآن سأموت . وكعادتها بكيت أمي وهي تضع في حقائب الجميع بعض الأشياء وتنظر إلى الصوفاية التي اشترتها بثمن الحلق الذي باعته وتبكي . كانت أمي تحكي لنا حكاية عن كل قطعة أثاث في بيتنا. بعد قصف طائرات الميغ الروسية لقلب المخيم ولجامع عبد القادر الحسيني، قال أبي:" المهم أننا نجونا جميعاً ولم يمت أياً منا . كان الزحام يزداد كلما تقدمنا في السير،  قال رجل يمشي قريباً مني:" في فلسطين تقصفنا طائرات إف 16 الأميركية، وهنا  طائرات الميغ الروسية، كأنهم يطورون الطائرات لتجريبها في حاراتنا وأجسادنا" .  لم نكن نعرف إلى أين سنذهب. كان أبي مثل عصفور مصاب لا يعرف إلى أين تقوده وتقودنا قدماه. ومع ذلك كنا نمضي وراءه ضمن سيل بشري لم أشهد مثيلاً له .  خرجنا من المخيم وفي حي بوابة الميدان استطاع أبي أن يشحن هاتفه الخليوي في مطعم أكلنا فيه فول مدمس ومسبّحة. وما أن استعادت بطارية الموبايل بعض الطاقة حتى رن. كان أبو خليل جارنا الأصلع الذي يرتدي قميصاً أبيض دائماً، ونظارات سميكة على الطرف الآخر من الخط.  قال أبو خليل لأبي :" يمكن أن تذهبوا إلى جامع العمري في قدسيا "وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع بالحي وأزوره. لم تسعل جدتي طوال الطريق وعندما وصلنا إلى الجامع ازداد سعالها وكأنها تسدد دين الفترة التي كانت فيها صامتة بلا كلام ولا سعال ولا حتى تنهيدة.



6

أثناء إقامتنا في جامع الرحمن مع أكثر من مائة نازح من المخيم، تحدث أبو خليل عن مقتل 200 انسان في جامع عبد القادر الحسيني، وقال لع أبو ياسين:"وها نحن نلجأ إلى جامع مرة أخرى وما الذي يدرينا إن كان سيقصف هو الآخر؟" حرصت أمي مثل كل النساء على الصرة التي  تخبئها تخبئها داخل حمالة نهديها ، في الصرة خاتم العرس وبعض النقود التي كانت تتحايل لتوفيرها. وفي الجامع إياه شعرت جدتي بدنو أجلها، وكانت هي الأخرى تخبئ صرة تضعها في صدرها. كانت نوبات السعال شديدة، بل صار عزم جدتي ضعيفاً للغاية،  قالت جدتي، وهي تستند على كتفي أثناء ذهابنا إلى الحمام:"في الطنطورة، وضع الجنود أبي في واحد من تلك البراميل،  لا يزال  صوت أبي المخنوق يسكنني، كان واحداً من القتلى داخل البراميل ولكن أذني التقطت حشرجته وبذرت السعال في جسدي . هذا السعال لا يعرف الدكاترة له دواء. سأشفى يوم أعود إلى بيتنا هناك في الطنطورة،  وسأرمي سعالي المخبوء في جسدي دفعة واحدة".



7

في مساء ذلك اليوم قالت جدتي:"هذه المرة يبدو الموت أقرب من أي وقت مضى. لا أريد أن ترثي عني السعال" .أخرجت صرتها من صدرها وفتحتها بهدوء، ثم بدأت تورثني محتويات صرتها أمام جميع الذين اللاجئين إلى الجامع، مدت قطعة نقود ورقية خضراء :"هذا جنيه فلسطيني اعطاني إياه والدي لأعطيه لخالي سالم، ولكن خالي مات مع أبي يوم المجزرة، ثم أعطتني فردة حلق ذهبية وقالت ضاحكة:" أهداني زوجي هذا الحلق وضاعت فردة منه أثناء نزوحي  من بيروت إلى الشام"  وبعد ذلك  ناولتني مفتاحاً قديماً حافظت عليه مصقولاً وقالت :" هذا مفتاح بيتنا في الطنطورة، وهذا أهم ما سترثونه" ثم ضحكت وقالت سترثون الهم جيلاً بعد جيل إلى أن نعود إلى الطنطورة ونفتح بيوتنا بمفاتيحنا . قد لا تجدون الباب ولكنكم ستجدون حائطاً في بيت تعلقون عليه هذا المفتاح. أوصت جدتي بأن أحممها في المكان الذي خصصناه لاستحمام النساء في موضأ الجامع، وأن نسرح شعرها جيداً إذا ماتت، وأن ندفنها في فستانها الرملي، وقالت مبتسمة:  "أراه مناسباً لمقابلة وجه ربي" أربكتني جدتي ولم أعرف إن كانت تعني ما تقول أم تسخر من كل شئ. في تلك الأمسية تحدثت كثيراً عن طريقها من فلسطين إلى صيدا وبعدها إلى صوروبيروت ثم إلى دمشق، كانت ذاكرتها تبدو صافية مثل جدول وتجري برقة جدول، تجمع حولها الكثيرون من النازحين واستمعوا إليها وهي تروي تاريخها الملئ بالأوجاع وشهدوا على عذوبة حديثها، وشهدوا أيضاً نوبة السعال الأخيرة التي انتهت هذه المرة بموتها في حضني وأنا أجلس على سجادة في جامع العمري في بلدة قدسيا في دمشق. وأنا الآن، مثل جدتي وأمي،  أحمل صرة صغيرة أخبئها داخل حمالة نهدي، فيها مفتاح بيتنا في الطنطورة وفردة حلق وجنيه فلسطيني.