ذهب س.. ذات مساء إلى السيرك.
والحق أنه لم يكن مولعاً بحضور أمثال هذه الحفلات، بل إن ذهابه إلى السينما نفسها كان نادراً. ولكن رفقاءه في المكتب كانوا قد ذهبوا إلى السيرك جميعاً منذ عدة أيام وعادوا منتشين بما رأوا. ولقد ألحوا عليه، وهم ذاهبون، أن يرافقهم فأبى، أما في صبيحة اليوم التالي لذهابهم فقد تحدثوا ما طاب لهم أن يتحدثوا عمَّا رأوا وسمعوا، حتى خجل س.. من نفسه، ولم يقتصر الأمر على حديث رفقائه وحسب بل كان حيثما ذهب، يسمع الناس يلهجون بالثناء على هذا السيرك الذي لم يروا له نظيراً قط. لذلك وجد نفسه مسوقاً إلى أن يذهب مسايرة للجو العام، وهو على قناعة في صميمه، أن جلوسه في المقهى على عادته كل يوم أفضل، وظلَّ يؤجل الذهاب يوماً بعد يوم مدارياً تردده مقنعاً نفسه بالذهاب مرة ورامياً بآراء الناس خلفه مرة أخرى حتى لم يبق للسيرك في بلدته إلا يوم واحد، فعقد عزمه أخيراً، ومضى بخطا جريئة كأنه يخوض معركة فاصلة.
ولقد سر س.. جداً في السيرك. بل إنه لم يتمالك نفسه بعد فترة قصيرة من أن يضحك بملء صوته، وهو الخجول المنطوي على نفسه، ولم تمض برهة حتى كان يصفق تصفيقاً حاداً شأن الجالسين في المدرج، وقرر أخيراً أنه أحسن صنعاً بالمجيء، وأنه لم يندم على ما أضاع من وقت في هذا السيرك العظيم.
وحين أوشك البرنامج على الانتهاء وقدمت الفرقة المشهد الأخير، أحس بشيء من الانقباض، وود لو يدوم البرنامج ويدوم، وفهم للمرة الأولى، إقبال الناس على مشاهدة السيرك وتمتعهم به، وعذر منهم من أمَّ السيرك مرتين أو ثلاثاً، وتحسر أنه لم يزره حتى الآن، إذن لكان كرر المجيء غير مرة، وشكر في سره نصح الناصحين من رفقائه، فقد كانوا في نصحه مخلصين، يبتغون له الخير لا شك.
وإمَّا انتهت الحفلة صفق الناس طويلاً، فصفق س.. معهم، وبدأوا يتدافعون نحو الخارج، إلا أن س.. آثر أن يتريث في الخروج فهو يكره أن يدفع الناس من جهة، ويؤثر أن يتمتع للمرة الأخيرة بمنظر السيرك من جهة أخرى. لذلك بقي في مكانه لحظات، ريثما يقل الزحام ويصبح الخروج ميسوراً، وكانت تلك عادته حين يكون في مكان مزدحم بالناس.
ليس يدري كيف لمحه مدير السيرك بين ذاك الجمع الغفير، وراح يؤشر له بعينه، فخيل إليه للوهلة الأولى أنه يقصد غيره بالإشارة فلم يلتفت إليه ولكن المدير كرر الإشارة مرات بعينه أولاً، ثم راح يؤشر له بيده أن ابقَ، وإذ لم يكن س .. على عجل من الذهاب فقد بقي وحين فرغت مدرجات السيرك من الناس وأخلي السيرك ممن فيه، همَّ س.. بالوقوف، فوجد المدير يقترب منه وهو يبتسم ابتسامة عريضة، وعجب س.. غاية العجب من أمر المدير وظنَّ أن في الأمر خطأ، ولكنه كان مخطئاً في ظنه، فليس في الأمر أي خطأ، وها هو ذا المدير يقترب منه رويداً رويداً، ورغب في تلك الثانية أن يستسلم للهرب، ولكنه شعر أن ذلك غدا أمراً مستحيلاً، فتسمر في مكانه، وراح يؤنب نفسه، وما أكثر ما يؤنبها، على تباطئه وبقائه في السيرك هذه اللحظات، وقال في نفسه: كان يجب أن أخرج كما خرج الآخرون، إلام سأظل هكذا أتصرف دائماً تصرفات شاذة مغايرة، وتحسر أنه لم يأت إلى السيرك مع رفقائه يوم جاؤوا معاً وخرجوا معاً. واعترف في تلك اللحظة أن في سلوكه دائماً شيئاً خاصاً شبه شاذ عن الآخرين، وإلا فما معنى هذا التباطؤ والرغبة في عدم الخروج من الناس والخوف منهم ومن تدافعهم، أليس هو شبيهاً بهم، فلماذا لا يتصرف مثلهم؟ وبدأ الألم يحيط به، ولكن صوت المدير أنقذه من
ذلك كله حين وجده أمامه يقول له:
- مساء الخير يا سيدي.
فأجابه بلهجته المهذبة المعروفة عنه:
- طاب مساؤك يا سيدي.
وخيل إليه أن المدير سيسأله عن انطباعه عن السيرك أو عن ملاحظاته ، فاستبشر قليلاً وقال في نفسه لا شك أن شكلي يوحي بالثقة والاعتبار وغير بعيد أن يعمد المدير إلى الاستفادة من آرائي فقد كانت له آراء كثيرة وكان يود ألا يضن بها على الناس، في كثير من الأحيان، ولكن ما من أحد كان يطلب إليه إبداء رأيه ، ولذلك وبعد خبرة طويلة قبع في مكتبه يؤدي عمله بانتظام وانكمش على نفسه لا يختلط بأحد ولا يعاشر أحداً.
صافحه المدير بحرارة وكأنه يصافح صديقاً له لم يره منذ زمن بعيد، وهمس
في أذانه يقول في ثقة كبيرة:
- سنتحدث عن العمل.
ولم ينتظر منه جواب بل أمسك يده وأضاف:
- هذا المكان غير ملائم للحديث، هيا بنا إلى مكتبي.
وتبعه س.. في شيء من الإذعان والدهشة ولكنه لم ينبس بكلمة، وحين ضمتهما غرفة المدير الصغيرة خلف السيرك، جلس س.. يدير لحظَهُ في أرجاء الغرفة ويتأمل الجدران المملوءة برؤوس الحيوانات وخيل إليه أن الحيوانات ترمقه في ولهٍ وتبتسم، فهز رأسه وابتسم مجاملة وأدبا. ثم لم يلبث أن سخر من نفسه ووبخها على هذا التصرف الطائش، ولكنه عزَّى نفسه أن الغرفة خالية ما فيها غير المدير.
استطرد المدير يقول بلهجة جازمة.
- إن حدسي لا يخطىء!
فلم يفهم س.. ما يعني محدثه، ولكنه هزَّ رأسه شاكراً بينهما كان المدير ما يزال يتابع كلمه:
- لقد طفت أرجاء العالم مع مجموعتي هذه وأفراد فرقتي، وإن لي خبرة
عظيمة بالناس والحيوانات..
فابتسم س.. لدى سماعه هذا الكلام ابتسامة عريضة وهز رأسه شاكراً أيضاً.
- لست أدري كيف أبدأ الموضوع، فالقضية حرجة شائكة بعض الشيء...
فقاطعه س.. قال:
كلا، كلا، على العكس، تحدث بحرية وصراحة.
قال المدير:
- أعتقد اعتقاداً جازماً أنك بحاجة إلى عمل.
وصمت قليلاً. فقال س.. في دهشة:
- أنا؟؟ في حاجة إلى عمل؟
- نعم ولم ولا؟ كل إنسان بحاجة إلى عمل.
قال س.. في نفسه: هذا صحيح، أن كل إنسان بحاجة إلى عمل، أما أنا
فلي عمل أعيش منه، صحيح أنه عمل رديء ولكن .. فهز المدير رأسه:
- لا، لا. أعرف أن لك عملاً. ولكن على الإنسان أن يكون طموحاً فلا يرضى قط بعمله، أليس كذلك؟
- لا شك في صحة ما تقول، لا شك.
- إذن فنحن متفقان؟
- تماماً.
- أرأيت كيف أن حدسي لا يخطىء؟
- ربما كان حدسك لا يخطىء، ولكني لم أفهم إلى الآن صميم الموضوع.
- تريثْ قليلاً وستفهم كل شيء.
وتريث س.. ورأى أن يدخن سيكارة إذ أدرك أن الحديث سيكون طويلاً وهاماً غير أنه ما أن همَّ بمد يده إلى جيبه حتى كان المدير قد سبقه فقدم له علبة السكائر مع الكبريت.
- تفضل، دخن كما تشاء، أما أنا فلا أدخن إلا قليلاً.
وشرع يعب من اللفافة وهو في تطلع وفضول بينما راح يتحدث المدير حديثاً مطمئناً هادئاً:
- إن لي فراسة عجيبة في الناس، لقد استطعت أن أتعرفك وأنت بين آلاف المتفرجين ولم يخطىء حدسي .. فقد وجدتك تنتظر أن آتي إليك وأحدثك وقد أتيت فعلاً.
وهم س.. أن يقاطعه وأن يقول له إنه مخطىء في كل تقديراته هذه، وأنه إنما تريث تجنبا لتدافع الناس وتزاحمهم. ولكن المدير لم يتح له فرصة الكلام بل مضى يقول:
- لا، لا تزعم أن هذا غير صحيح، إنني أعرف الناس والحيوانات حق
المعرفة، والآن ما رأيك؟
فلم يع س.. شيئاً من كل ما سمع وقال مستفسراً:
- رأيي في ماذا؟
- العمل .. يا سبحان الله!
- ولكن لي عملاً!
- أعرف أن لك عملاً، ولكن ما قيمته، ثم أين الطموح ؟؟
وفكر س.. قليلاً في متاعب عمله ومضايقات زملائه وبؤسه وعدم تقدمه وضيق ذات يده .. وأثارت فيه كلمة الطموح مشاعر غامضة. أين غفا طموحه؟ إنه ليذكر أنه كان يوم دخل الوظيفة منذ سنوات، يريد أن يكون شخصاً له أهمية، وأن يصبح مسؤولاً كبيراً في المديرية وأن يتابع دراسته فيصبح صاحب الحل والربط في أعمال المديرية وينتقل تأثيره ونفوذه إلى غيرها من المديريات ثم يعم نشاطه فيشمل البلدة كلها. ولكن طموحه ضعف مع الأيام ثم هزل وانتهى به الأمر إلى أن يجف فيصبح كورقة صفراء ميتة في خريف لا ريح فيه. وغدا راضياً قانعاً بعمله الكتابي هذا، يقبع منذ الصباح حتى الظهر فوق طاولة خربة، قد بهت دهانها .. وجذبه صوت المدير من شروده:
- أرأيت أننا متفقان؟!
فلم يجب بشيء وهز رأسه. وقال المدير بصوت جازم واثق:
- ستعمل عندنا، إننا بحاجة إلى أمثالك!
- عندكم؟
- نعم.
- في السيرك؟
- نعم، نعم.
وابتسم س.. قليلاً. قال في نفسه: من يدري لعل الحظ قد رضي عني آخر الأمر. وفكر في أنه يستطيع أن يقوم بعدد لا بأس به من الأعمال، ففي مقدوره مثلاً أن ينشىء الرسائل وأن يطبعها على الآلة الكاتبة كما يستطيع أن يقوم بأعمال المحاسبة. وأن يقطع التذاكر. وسر أنه يتمتع بكل هذه المؤهلات.
قال له المدير:
- إن لك مؤهلات كثيرة.
فانفرج فمه عن ابتسامة عريضة منبعثة من أعماق قلبه، لعله يسمع مثل هذا التقدير للمرة الأولى في حياته. عند ذلك شعر بأن اللحظة الحاسمة قد حانت فحدق جدياً في وجه المدير وقال له:
- أي عمل تريد أن تعرضه عليَّ؟
راح المدير ينقر على الطاولة بقلم كان أمامه وقال في منتهى الهدوء:
- إصغ إليَّ إن عدد الحيوانات ولا سيما القردة يتناقص في السيرك يوماً بعد يوم، ولم نستطع أن نجد لهذا تفسيراً أو حلاً. وقد استنجدنا بالأطباء البيطريين، وبشتى الأساتذة المختصين، فلم نوفق في شيء .. لذلك رأينا أن نوظف بعض الأفراد الممتازين، لكي يقوموا بأدوارها.
فغرس.. فاه دهشة.
- لا تتعجب، إن معظم القردة التي رأيتها منذ فترة ليست سوى أناس عاديين، يقومون بأداء أدوارهم بكل دقة. ثم يخرجون من السيرك ليستريحوا ويفعلوا ما يشاؤؤن .. ولقد جرينا على هذا منذ أمد بعيد.
- إذن فهؤلاء ...
- ألست تعرف شيئاً يسمى بالإخراج؟؟
- ...
- لا أكتمك أن الأمر صعب، ولكنه مع الزمن ..
وبدا على س.. أنه لم يفهم أيضاً ..
- لقد وجدنا طريقة مثلى للاحتفاظ بجلود القردة وسائر الحيوانات، واستطعنا المحافظة عليها وجعلها وفق جسم الإنسان العامل لدينا، ولكل ثوب منها جرار خفي يفتح فيدخل فيه الشخص ثم يغلق. فلا تستطيع العين أن تتعرف فيه على غير قرد أصيل ..
وشعر س.. بدمه يغلي في شرايينه، لا شك أن هذا المدير يعرِّض به ويحتقره ويطعنه في كرامته الإنسانية، وأوشك أن يقف ويضربه وهو الذي لم يضرب أحداً قط طوال حياته. ولكنه لم يفعل شيئاً سوى أن رفع يده يكفكف بها دمعة ليس يدري كيف طفرت من عينيه، وقال للمدير في انفعال:
- ظننت أن هناك عملاً آخر ستعرضه عليَّ، أما هذا ..
وجفت الكلمات في حلقه، فلم يستطع أن يتابع كلامه.
- لا عليك يا صديقي، إن بعضاً ممن عرضت عليهم هذا العمل قد تضايقوا أول الأمر، كما تتضايق الآن، ولكن مع مرور الزمن ..
- ولكنني لا أريد أن أعمل هذا العمل .. ظننت أن هناك عملاً آخر.
- حسن، ولكن هذا أفضل عمل، وعلى كل فلست أكتمك أن العمل عندنا نوعان: الحيوانات والمهرجون، ولكي تحقق أحلامك وتخرج من قوقعتك وتجسد طموحك وتصبح شخصية ذا أهمية فلا بد لك من أن تختار أحد هذين العملين.
- ماذا تقصد؟
- إما أن تصير حيواناً أو مهرجاً، فتبلغ بذلك النجاح العظيم، ولكنني أذكرك أن المهرج عمل أشد صعوبة ، صحيح أن دخله أكبر وقيمته أعظم، ولكنني أرى أن تبدأ بالعمل الآخر، ولا بد لي أن أذكرك أن كل الأعمال في الحياة سواء.
ثم استطرد يقول:
- قد تستطيع، إذا أبديت شيئاً من البراعة أن تمثل دور عدة حيوانات مفترسة فتلبس كلما اقتضى الأمر جلد حيوان ما، وسيعطيك هذا قيمة كبرى في السيرك.
- ولكنني .. ولكنني لا أريد ولا أعرف أن أكون قرداً.
- المسألة ليست صعبة كما تتوهم وإنني أعدك أنك إذا نجحت ففي الإمكان نقلك إلى زمرة المهرجين.
- ولكنني ..
- المسألة يسيرة جداً، يكفي أن تفعل مثل ما تفعل سائر القرود وستجد القضية في منتهى اليسر .. والجمال. وسيصفق لك الجمهور كثيراً.
أطرق س.. وراح يفكر: أهذه مصيبة ألمت به أم أن الحظ يبتسم له فعلاً!
- عفواً ... إنني ...
- المسألة يسيرة جداً كما قلت لك .. يكفي أن تفعل مثل ما يفعل الآخرون وسترى كيف توفق بسرعة ..
- كما يفعل الآخرون؟؟
- نعم، نعم، إن مصدر البلاء عند الناس رغبتهم في التفرد والقيام بأمور وتصرفات خاصة، فإذا أردت أن تكون شيئاً عظيماً في السيرك فما عليك إلا أن تنسى ذاتك وتصبح كالآخرين من القردة.
وضحك س.. أخيراً، وهو يهم بالوقوف .. وقال على نحو جازم:
- لا بأس بهذه النكات .. أشكرك .. يظهر أنك أردت أن تضيف فصلاً جديداً إلى البرنامج لتدخل في نفسي البهجة .. إني لأشكرك، وأعتقد أن المهزلة هذه كانت موفقة وقد انتهت الآن.
وهمَّ بالانصراف، ولكن سرعان ما بدت الدهشة في أنظار المدير الذي قال له:
- كلا، كلا. إنك واهمٌ في هذا كله. إنني أتكلم جاداً، وأعني ما أقول.
- إذن فطريقنا مختلفة ... الوداع.
ثم هز رأسه في أسف وقال وكأنه يقصد أحداً بالكلام:
- إنني أريد عملاً؟ آه، نعم، أريد عملاً عظيماً، رائعاً. أريد أن أعمل في
أمور هامة، أريد أن أخدم قضية وأن أناضل وأطمح في سبيل رسالة ..
صاح المدير في فرح:
- ألم أقل لك إننا متفقان؟!
- متفقان؟
- أجل، أجل. وهل هناك أفضل من الرسالة التي تقوم بها.
- أية رسالة؟
اصغ إليَّ يا صديقي، لو أنك انتبهت جيداً إلى ما أقول لأدركت سر هذه الرسالة العظيمة التي نسعى لتحقيقها.
- ماذا؟
- أتظن أن هذا الذي يخاطبك إنسان مغفل؟ لقد بلوت الحياة وخبرت البشر فوجدت أن خير ما أصنعه للإنسانية هو هذا السيرك، لا ليتلهّى الناس به، كما قد يتبادر إلى الذهن ، بل لكي يشتركوا هم فيه، وغايتي البعيدة أن يتوسع هذا السيرك يوماً بعد يوم ويشمل عدداً كبيراً من الناس فيصبح بلدة بأكملها يرتدي فيها الناس جلود الحيوانات المختلفة ويقومون بأداء أدوارهم بالاشتراك مع المهرجين ثم أنتقل حين أطمئن على سير العمل إلى بلدة أخرى فأنشىء فيها سيركاً آخر يكبر مع الأيام ويتسع وهكذا .. ولسوف ترى أن الناس سيتزاحمون للانتساب إلى السيرك في المستقبل ولن يترددوا كما تتردد أنت الآن .. ومن يدري فقد يتاح لك أن تساعدني في أداء هذه المهمة الجليلة.
- وما الفائدة من هذا كله؟
- ألم أقل لك إنني أسعى إلى غاية بعيدة، إن بودي أن أنقذ البشر وأحقق بينهم العدالة وهذه هي الطريقة المثلى الوحيدة لذلك.
وتظاهر س.. بأنه فهم مراد المدير. قال له هذا أخيراً:
- فكر في الموضوع ، ولا يكن هذا جوابك النهائي، وعد إليَّ صباح غد، وستجدني في انتظارك، ولا تنسى أن السيرك سيرحل عصر غد.
صافح س.. المدير بيد جامدة باردة ومضى في طريقه.
لم يجد س.. إلى النوم سبيلاً في تلك الليلة، ومع أنه كان متعباً نعسان فقد ظل يتقلب طويلاً في فراشه قبل أن يغفو أخيراً. وكان طوال ذاك الوقت يفكر في هذا الموضوع العجيب الخطير الذي برز له مساء هذا اليوم. وكانت نفسه تهم بطي الموضوع وصرف النظر عنه ثم لا يلبث أن يشعر بشيء من الخدر في استرجاعه والعودة إليه، لكم تمنى في حياته أن يصبح إنساناً يصفق له الجمهور ويحوز إعجاب الناس. لقد حلم ذات يوم أن يصبح محاضراً يتقاطر الناس لسماع محاضراته ولكن ظروفه لم تتح له أن يتابع دراسته ثم أين عدد مستمعي المحاضرات من مشاهدي السيرك؟! وفكر في وضعه: أي مستقبل ينتظره، إنه لن يبرح هذا المكتب الجالس إليه حتى يموت، ولن يترفع فليس هناك وظيفة شاغرة في الملاك، سيظل كما هو سنوات طويلة وليس له إلى ذلك، من يلتمسه أو يدعمه في المديرية .. أما هناك فقد يسعده الحظ فيتقدم ويصبح مهرجاً. آه! ما أجمله من عمل! إن أنظار الآلاف من الناس تظل شاخصة إليه. لقد وعده المدير بذلك ولا شك. والسفر ... ! والتنقل .. والخروج من البلدة! والذهاب بعيداً بعيداً، والقيام بعمل نافع مفيد وأداء رسالة كبرى!! سيتاح له أن يتنقل من بلد إلى بلد، وهو الذي لم يستطع إلى الآن أن يغادر بلدته الكئيبة. أية مباهج تنتظره، وفتيات السيرك؟ لماذا لم
يذكرهن! إنهن جميلات القوام رشيقات الخطا، ثم ألا يحتمل أن يكون بين القردة فتاة يسعده الحظ بالتعرف إليها والزواج منها وقد يئس وهو في وظيفته تلك أن يتزوج؟! لقد كان المدير على حق حين زعم له أن السيرك ينقد الناس .. ولكنه سرعان ما كان يعمد إلى طرد هذه الأفكار من ذهنه ثم لا يلبث أن يعود ليتملَّى مباهج السيرك. وغفا أخيراً متعباً، منهوك القوى ..
* * *
وجد س.. نفسه جالساً في الصباح الباكر إلى طاولته في غرفته الصغيرة يخط بعض الرسائل إلى أصدقائه ومديره في العمل يخبرهم فيها أنه مسافر إلى أمد بعيد. ولم يُدِل بأية تفاصيل أخرى.
ومضى سريعاً إلى السيرك، ومن عجب أن المدير كان في انتظاره قبل الموعد، وشد على يده وهنأه فدخل س.. بسرعة إلى المستودع وانحشر بين الأفراد واستعد معهم للرحيل ..
١٩٦٢
